د. سلطان الخضور
أوديسيوس الجديد
قبل الكتابة عن الفلسفة الشعرية ومقاصد
هذه القصيدة, لا بد لنا أن نعرف من هو أوديسيوس, ولماذا أطلق الشاعر عليه لقب
الجديد.
تقول كتب الأدب والأساطير أن أديسيوس هو بطل
يوناني وهو الشخصية الرئيسة في ملحمة الأوديسة التي سميت باسمه, وهو أقدم عمل أدبي
غربي, كتب في القرن الثامن قبل الميلاد, على الساحل الغربي للأناضول الذي كان
الاغريق يسيطرون عليه, وقد اشتهر أوديسيوس باستخدام ذكائه بطريقة توحي بالمكر.
وتحكي الملحمة قصة عودة أوديسيوس إلى منزله بعد أن انتهت حرب طروادة التي قاتل
فيها عشر سنوات, وعاد إلى منزله بعد عشر سنوات أخرى قضاها بعد الحرب وقبل
العودة لمنزله, وفي طريقه إلى منزله حسب الأوديسة
يتحول إلى رمز للروح البشرية وهي تبحث عن معنى الحياة, وهو ما يمثل السعي للمعرفة,
ولماذا يتعين على احدنا أن يفعل أي شيء سعياً للزعامة وتسلم الملك, وبينما
أوديسيوس غائب يتسلل أكثر من مئة رجل من
الأروستقراط من مدينته إيثاكا إلى بيته لعل واحداً منهم يظفر بالزواج من بينيلوبي
الملكة ليصير ملكاً, حيث كان ذلك, وبعد عودة أوديسيوس, قام بقتل كل من تجرأ على
القدوم لمنزله والسعي لمثل هذا الأمر, وبالإضافة إلى البحث عن إجابة عن سؤال لماذا
نفعل؟ حيث لا بد من الفعل اذا كان هناك هدف.
والأثارة الفلسفية تكمن في العنوان وتحديدا
في النقاط التالية:
أولاً : أن العودة أمر مفروغ منه وإن طال
الغياب.
ثانياً: أن الصبر مفتاح الفرج, وفي الصبر
والأناة ترتسم الطرق التي تقود إلى الهدف.
ثالثاً: أن لا يأس مع الحياة, ولا حياة مع
اليأس, فقد يظهر ما لم يكن في الحسبان, فمن قال أن أوديسيوس سيعود بعد غياب عشرين
عاماً دون معرفة أخباره.
رابعاً: أن في كل مرحلة تاريخية, هناك
انتهازيون وصوليون يحاولون استغلال الظروف لمصالحهم, وأنه لا بد أن يأتي اليوم
الذي سيحاسبون فيه.
خامساً: إن ظروف الحياة متشابهة, وأن ما يحصل
اليوم قد نجد له حدثاً شبيهاً حصل قبل آلاف السنين, وأن التشابه في المدخلات يحتم
تشابهاً في المخرجات.
أما الصفة التي أطلقها الشاعر على
أوديسيوس فهي صفة الجديد, وهذه الصفة تصلح لتشبيه كل من ترك وطنه عنوة وبالقوة
وبالحرب, لا بد له من العودة واسترجاع
حقوقه وإن طال السفر.
وينجح الشاعر القاسم في سحب أحداث الأوديسا
على دير الغصون وهي قرية الشاعر المحتلة من قبل الصهاينة منذ عام 1967 , ففي توطئته الأولى التي عنونها ب"مهر
الرياح" فإنه يرى أن ما كان في
الأوديسا سيكون في دير الغصون, وفي الحالة الأولى عاد الحق إلى أهله بعد طول غياب,
وهكذا سيكون في الثانية. ولكن ذلك لن يكون إلا بعد التضحية والموت, فنجده في مقدمة قصيدة أوديسيوس يصف الموت بالمر, وقد
استعان الشاعر بمفردتين قاسيتين, فالوصف والموصوف لا يستسيغهما البشر ولا يحبهما,
موت, والموت مرُ, وقساوته ليست فقط بمرارته , بل بكثرته ايضاً, ويشهد على ذلك
المدى والمدى قد يكون منظورا وقد يكون غير منظور, وقد يعني الشاعر هنا الفرق بين
الحياة والموت.
وبعدها يوظف الشاعر مفردات مثل ذابلتان,
والفعل المضارع يخفق ليعبر عن لحظات الألم
المستمرة ما بعد الهجرة وهذا القلب النابض بالجراح, والقلب لم يمت بل مازال
خافقاً, لكنه ينزف دماً ووجعاً بالتدريج, وكلما طال البعد استمر النزيف, وقد
استطاع الشاعر أن يناجي الحقل وأن يناجي قريته التي تركها, ورغم نزف القلب إلا أنه
يهتف باسمها في كل الأوقات, وقد استعان باللون والجمال في وصف قريته, والبنفسج من
الألوان الجميلة المحببة, عدا عن جمال الرائحة الذي تبثه في الأرجاء المحيطة, ولم
يكتفي بالتعبير عن وجع الفقد بالبنفسج, بل ناجى الحقول, التي تشتهر بها " دير
الغصون".
ودير الغصون قرية من قرى فلسطين الجميلة,
تقع بالقرب من مدينة طولكرم, وتتربع على ما يزيد عن الثلاثين ألف دونم, وهي من
القرى المعروفة بكثرة أشجارها من الزيتون واللوزيات, حتى أنها تكاد تشكل غابة
مسكونة, وتجمع ما بين القرى الريفية والشاطئية, إذ يفصلها عن ساحل البحر
المتوسط أقل من عشرين كيلو متراً. وتقول
الروايات أنها سميت بدير الغصون لأنها كانت في عهد الرومان ديراً قطنه ابن ملك
الرومان في حينه الذي كان يعرف باسم
" غصون" وإن كنت لا أميل إلى الشق الثاني من الرواية وأجدني أجنح إلى أن
كلمة الغصون تعود إلى كثرة غصون الأشجار التي كانت تحيط بالدير.
وبهذه الفلسفة الشعرية الجميلة يكون الشاعر
قد استعان بالماضي والحاضر, بالغابة
والحواضر, بنبض الزهر ونبض البشر ليعبر بمفرداته عن حالة يعبر فيها عن مدى
الفقد وما سببه من الم, وهذا يذكرني
بأبيات عنترة العبسي إذ ناجي عبلة والرماح تثخن جسده والسيوف تغور فيه والدم يقطر
من جسمه ,فها هو يستذكر عبلته في أشد اللحظات قساوة وحلكة.
" ولقد ذكرتك والرماح مني نواهل وبيض الهند تقطر من دمي"
أما القاسم فيقول:
مر موت كثير والمدى شاهد,
زهرتان على القلب ذابلتان, والصدر يخفق, ينزف القلب شيئاً فشيئاً, يا بنفسج, يا
حقول, يا دير الغصون.
ويتابع الشاعر فلسفاته الشعرية في المزج ما
بين الألم والأمل, ما بين الحسرة والتفاؤل, ما بين الواقع المؤلم ويقين التغيير,
ما بين الهجرة القصرية والعود الميمون الذي ستحمله بشائر النصر عل كتفيها وتنطلق
به عندما ينبلج فجر يحقق الحلم, فهو يناجي دير الغصون, وبيته القديم, كأنه يستنهض
فارساً ليركب حصانه ويقوده محملاً ببشائر
النصر, وكأني به يرى الشاحنات محملة ويرى الخيول عائدة إلى هناك, إلى بيته القديم,
الذي تخفق به الرياح, والذي هو مستودع لأسرار العائلة, وهنا تحضرني أبيات ميسون
بنت بحدل الكعبية زوج معاوية عندما جلست
تنظر إلى الأشجار التي حولها وعلى أنغام تغريد الطيور وفي جو بديع وسط حديقة من
الأزهار ,حيث حنت إلى البادية مسقط رأسها
فأنشدت تقول:
" لبيت تخفق الأرواح فيه/ أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني/أحب
إلي من لبس الشفوف "
ولأن كانت ميسون تستذكر بيتها بحرقة الفقد وحولها الوصيفات والنعيم المقيم,
فكيف بمن غادر منزله عنوة وتحت تهديد السلاح والطيران وحيل الأعداء وغدرهم, فها هو
يقول:
يا دير الغصون, يا بيتي القديم, بيت
الريح والأسرار
موعدنا الصباح, إني عائد.
وقد استخدم لغة الواثق المتأكد من وقوع الحدث,
ومما يدل على ذلك استخدامه لحرف " إن" حين قال: إني عائد.
وينتقل الشاعر في
مناجاته من الصغير في المساحة إلى الكبير , من قرية دير الغصون إلى كل فلسطين, وما
التكرار في المناجاة والمناداة إلا على
سبيل التوكيد فهو يكرر ذكر فلسطين ثلاث مرات, وما دلالة ذلك إلا على سبيل التيقن,
وبعد ذلك ينتقل لوصف فلسطين بمهرة الشمس والمفردتين مهرة والشمس كل منهما ذات معنى
ومغزي يقصده الشاعر, فالمهرة هي ابنة الفرس الفتية وغير الكبيرة وهي دلالة على
فتوة فلسطين والفتوة عكس الكهولة ففيها الحيوية والنشاط والقوة وسريان الدم في الأوردة. وأما المفردة
الثانية وهي الشمس فهي تعبير عن الحرية والاستقلال والدفء وطلوعها على الموقع هو
فجر جديد يبشر بالحرية.
وكأني به ينتقل بعدها إلى ما يشبه التحذير
والتوعد, فهو باستخدامه عبارة " لا بأس" وكأنه يقول لا خوف ولا قلق على ما يفعل المحتلون,
ولا حزن على ما يفعلون, فلا عليكم ولا علينا مهما حصل, ومهما طرأ من تغييرات سواء
في الزمان أو على المكان, فإن العودة أمر مفروغ منه وهي لا بد آتية, حيث
نجد في ذلك طمأنينة الواثق من النتيجة والعارف بها, وما أرى التكرار في
مناجاة فلسطين, إلا لسببين, أولهما
التوكيد لما يقول, وثانيهما للتعبير عن شدة الارتباط ومرارة الابتعاد .
فلسطين يا فلسطين يا فلسطين, يا مهرة الشمس, لا
بأس , لا بأس, إني عائد.
ويتابع الشاعر فلسفة التيقن ليقرنها بعدم
الاكتراث فيما يجري من أحداث, فليفعل الأعداء ما يشاؤون, وماذا سيفعل الاعداء إلا
القتل والتشريد والتدمير والخراب فليجرحوا وليقتلوا من أهل البلاد ما شاءوا أن
يجرحوا أو يقتلوا, وليدمروا ما شاءوا من
البيوت ولينبشوا ما استطاعوا من القبور
وليدمروا ما استطاعوا من المدارس, ولن تتوقف همجية العدو عند هذا الحد, بل
إن أشجار الزيتون والليمون والحبق. والحبق
هو" ما يعرف بالريحان وهو نبات عطري ناعم لامع الأوراق له العديد من
الفوائد", كل هذه الأشجار لن تسلم
منهم, فهم يتعاملون معها كأنها بشر وعدو لدود من شدة الحقد, - وشتان ما بين شدة
الحقد وشدة الفقد- وقد جاء ذكرها لعظيم شأنها فالزيتون شجرة مباركة والليمون شجرة
مفيدة معطاءة بالإضافة للحبق الذي تم
ذكره. ويستدرك الشاعر بعدها بكلمة لكن ليقول أن النتيجة ستكون عكس التوقعات, فإن
كان الأعداء يظنون أن كل شيء سيخضع لأمرهم بالقوة والجبروت فإنهم واهمون, فهم وأن
سرقوا البيت لن يسرقوا دفأه وذكرياته الجميلة التي عاشها الأهل هناك, فكيف لهم ان
يسرقوا فرحة الصغار وضحكاتهم التي كانت تملأ الحي وحوش الدار العتيقة. فهل يستطيع
الاحتلال بجبروته سرقة تلك اللحظات الجميلة عند طلوع الشمس عند الشفق وما ينتجه من
أجواء مفعمة بالتفاؤل والأمل, وهل يستطيعون وقف الطبيعة التي خلقها الله نتيجة
لتلاقح الأزهار, فهو يؤكد على أنهم لن يمنعوا تلاقح الأزهار ولن يمنعوا الغيث
المهاجر, والغيث المهاجر يعني غير المقيم في فلسطين والأقرب إلى الظن هم أهلها
الذين غادروا إلى مناطق أخرى خارج حدود الوطن, ويضيف كذلك الشمس الجميلة التي تعطي
الحرارة والدفء وخاصة شمس آذار وهي الشمس المطلوبة لتعطي الدفء في نهاية فصل
الشتاء , فهل يستطيع الأعداء حجب الشمس عن هذا المكان الذي يعتبر بالنسبة للشاعر
ولغيره من الفلسطينيين جنة الله على الأرض الذين ما برحوا يهتفون باسمها صبح مساء
, فهل من الممكن أن يوقف الأعداء هذا الهتاف ويسكتوا هذه الحناجر.
فليجرحوا... وليقتلوا, وليهدموا
البيوت والقبور والمدارس, وليقلعوا الزيتون والليمون والحبق. لكنهم ...لن يسرقوا
دفء البيوت.. بهجة الصغار , كركراتهم, تنفس الصباح والشفق, لن يمنعوا تلاقح الأزهار, لن يمنعوا الغيث المهاجر والشمس
في آذار , لن يخرسوا الحناجر.
ويعود الشاعر إلى فلسفة الربط الوجداني الإنساني لمن هاجر عنوة, وترك وطنه
على أمل العودة, فهذا المهاجر ستتولد لديه شهوة الكفاح وما الشهوة إلا الرغبة
الشديدة في حصول حدث ما أو الحصول على شيء ما, وهنا تنحصر شهوة المهاجر بالكفاح
وما الكفاح إلا الرغبة في المواجهة وجهاً لوجه لكن الشاعر يجعل هذه الشهوة في
الصدور, وكأن هناك ما يمنع خروجها إلى العلن, وربما يعود ذلك إلى الظروف غير
المواتية لممارسة هذا الكفاح على أرض الواقع, فيبقى يعتمل في الصدور بانتظار لحظة
الانطلاق. ويربط شهوة الكفاح أيضا بالألق,
ولما كان الألق يأتي على معنيين اللمعان والبرق بلا مطر فإننا نستطيع استثمار
المقصد على المعنيين, فالألق في صدر المهاجر ينبض كالبرق لا يمكن إخفاؤه فهو واضح
ولامع ومن ناحية أخرى هو لم يمطر بعد ولم يأتي أكله لأن الوقت لم يحن بعد, وبعدها
تأتي مهارة الربط بين هذا المكبوت في
النفس والاعصار الذي لن يستطيع الأعداء منعه, هو ظاهرة مناخية تتشكل بشكل مفاجئ,
لكن جمال الرابط مع سبقها وعدم اكتمال الظروف المواتية للكفاح مما أبقاه في الصدر
فالإعصار هو الآخر يحتاج إلى توفر أجواء وشروط معينة للحصول, وهنا تأتي فلسفة
التيقن من أن الحدث آت, بتأكيده أن الشمس ستشرق, فلا أحد في هذه الدنيا يستطيع
حجبها, وقد جاءت الشمس بصيغة الجمع" شموس" للتوكيد على أمرين أولهما أن
الحدث سيتكرر , فلن تشرق الشمس مرة وتحتجب, والثانية أنها لن تشرق على شخص واحد,
بل على ملايين الأشخاص, فهي حالات متعددة وإشراقات عديدة.
وشهوة
الكفاح في الصدور والألق, لن يكسروا الإعصار, لن يحجبوا الشموس عن جباهنا.
وإن كانت الرياح هي حركة قوية توجه الهواء نتيجة لاختلاف الضغط الجوي, ولما
كان من الرياح من المبشرات حيث تسبق نزول المطر, ومنها الناشرات التي تحمل الغيوم
ومنها ما يثير الغبار والأتربة وهي الذاريات ومنها الصرصر الهالكات ومنها القاصف
المختصة بموج البحر ومنها المدمر العاصف, فكل أو بعض من الرياح لا بد آتية, وهي
حركات مناخية كونية لن يستطيع المحتل ولا غيره منع حدوثها أو هزيمتها حين تهب,
فالشاعر يراها لا بد آتية, إنما المسألة مسألة وقت وانتظار حتى تتهيأ الظروف, وقد
أحسن الشاعر تشبيه الريح بالمهر, فالفارس سيأتي على مهر يسير كما الريح, واختيار
المهر تعطي صورة الفتوة والشباب فلن يأتي الفاتحون على فرس عجوز أو حصان أخذ العمر
منه مأخذه, بل هو مهر أي ابن الفرس الذي اشتد عوده للتو, وهو يعود هنا ليؤكد أن
الأعداء لن يستطيعوا كبح جماحه وهو يصهل بصوته اللجوج المبحوح, والمهر اللجوج هو
المهر الملح الذي يصر على تنفيذ الأمر بإلحاح, وصوت المهر المبحوح هو الغليظ
الخشن, فأنا لهم أن يكبحوا جماح مهر بهذه المواصفات, ليعبر الشاعر بالتالي عن شدة
انبهاره بهذا الجو المبشر الذي يستعيد الأمل بعودة الحق لأصحابه.
لن
يهزموا مهر الرياح, لن يكبحوا صهيله اللجوج المبحوح, الله! ما أحلاه, الله! ما
أحلاه!
أما
التوطئة الثانية في ملحمة أوديسيوس, فقد أطلت من بين مفرداتها
فلسفة التحدي, ولما حملت هذه التوطئة عنوان" هيلا هيلا" وهذه الأغنية من
أغاني المطرب المعروف مارسيل خليفة وهي من الاغاني التي دخلت التراث اللبناني
المقاوم.
والأغنية تنسجم مع سياق القصيدة حيث الدعوة للمقاومة من خلال ذكر بعض
المفردات والعبارات مثل " شدوا الهمة/ الهمة قوية, جرحه بنده للحرية, خلف
القلعة قلعة نحنا, صوت جنوبي نسمع, وجنوبي للنخوة مقلع , وشريط الخيانة نمزع.
ففي
الأغنية تحريض على المقاومة والصبر في مواجهة الاحتلال, فالهمة قوية والجرح الذي
سببته المعارك مع الاحتلال ينادي من أجل الحرية والتخلص من هذا الكابوس الذي سيطر
على الجنوب اللبناني منذ عام 1982 وحتى
عام 2000 من أجل صد المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
أما
القلعة المقصودة بالأغنية فهي حسب ظني فهي قلعة الشقيف في الجنوب اللبناني, التي
بناها الرومان ورممها الصليبيون, وقد شهدت القلعة معارك عنيفة بين منظمة التحرير
والاحتلال, حيث تمكنت سلطات الاحتلال من السيطرة عليها عام 1982. وقد دخلت هذه
القلعة التاريخ اللبناني والعربي من باب المقاومة. ونقتطف من كلمات الأغنية:
"شدوا الهمة الهمة قوية/ مركب ينده ع
البحرية/ يا بحرية هيلا هيلا/جرحي ينده للحرية/ خلف القلعة نحنا/ساحات الدنيا
مطرحنا/ صوت جنوبي جنوبي نسمع/وجنوبي للنخوة مقلع/وشريط الخيانة نمزع/ يا بحرية
هيلا هيلا".
فكلمات الأغنية تحوي العديد من المعاني التي استدرجها الشاعر ليرسخها في
ذهن المتلقي ويجعل منها مقاصد للقصيدة. فالجنوب الذي يعانق جمال البحر
المتوسط وفضاءاته الواسعة عانى من الاحتلال
الكثير, وهنا يكمن جمال الربط الثلاثي بين الأوديسا والجنوب اللبناني وفلسطين
لتشكل مثلثاً كتبت الأغنية على كل ضلعً من
أضلعه وتركزت في داخله ثقافة المقاومة
وشعريتها.
وحتى
يبقينا الشاعر في أجواء الحشد والتحريض والتحفيز على ضرورة دحر الاحتلال, يعود
ويذكرنا بأوديسيوس الذي سبق وتكلمنا عنه, مخاطباً الثائر الفلسطيني وواصفاً إياه
بسليل المنافي ليقول أن هذا الرجل المقاوم قد انحدر من سلالة تكونت في المنافي
ليشير إلى طول الفترة الزمنية التي مر بها وكأني به يقول أن الأوان قد آن لهذه
الحقبة أن تنتهي, ويعطي شاهداً من التاريخ
على حتمية انتهاء الظلم حين يعيد التذكير بأوديسيوس الذي انتهت مأساته بالنصر
والانتقام ممن ظلموه في غربته.
ويعود لفلسفة الدعوة إلى الصمود والثبات,
وذلك من اجل أن لا تذهب سدى هذه التضحية حيث لا بد من قطف الثمار, لا بد من الدعوة
لاستمرار المقاومة وأن لا تستسلم وأن يبقى الرأس مرفوعاً, لأن الاستسلام وقبول
الواقع يعني انسداد الأفق, وبالتالي عدم تحقيق الهدف الذي من أجله كان كل هذا
التعب والتيه وكل هذه الحيرة, ويتبع فلسفة الصمود بفلسفة التحريض والدعوة للمضي
قدماً باتجاه تحقيق الهدف دون خوف والعمل على السير قدماً في وضح النهار, وما هذه
الدعوة إلا تأكيد واضح على مشروعية الأهداف التي ستقود حتماً إلى تحقيق النصر
والخلاص من المنفي والتشريد ومحاولة وضع حد لطريق الآلام.
أخي يا سليل المنافي/ أخي الحائر الثائر المتعب/
أيها المهر أوديسيوس
حيث لا تمضي الخطى وينغلق الفضاء/ لا تطأطئ رأسك
العالي
تقدم باتجاه البحر في عز الظهيرة/ رابط الجأش تقدم/ لا تبالي
ويتابع فلسفة التحريض على الصمود والدعوة للتقدم
لتحقيق الهدف, مستخدما حاسة البصيرة المغلفة بالحدس, فيراهم وقد هبت ريحهم والريح
لها معانيها وفعلها عند العرب وفي الإسلام’ فمنها ريح الشمال وهي التي ينعش نسيمها الروح, وريح الجنوب التي تحمل
الأمطار, وريح الدبور وهي ريح العذاب والدمار, أما ريح الصبا التي ذكرها الشاعر
فهي للإلقاح الأشجار والسحاب. وهي في هذه القصيدة تعني الكثير, حيث الاستبشار
بالخير الوفير الذي سيكون نتيجة لتلقيح الشجر والسحاب, فالمطر سينبت الزرع والشجر,
وسيشعر الجميع بقدوم الخير كناية عن أن الخير قادم مع أولئك الثائرين المدافعين عن
أوطانهم, أما وصف الصبا بالكسير ففيه فلسفة شعرية تنم عن القدرة على الوصف, دلالة
على شدة الريح التي ستهب على السحب الرعدية مع ريح الجنوب الرطبة, وجمال التشبيه
يكمن في المقاربة بين الأماكن لأن هذه الريح تتشكل في العادة فوق البحر الأحمر
المحاذي لفلسطين وتكون عاصفة وشديدة تحمل سيولاً جارفة, وما ذلك إلا تعبير عن
أمرين: الأول: الشدة والثاني أن الهبوب والعطاء سيكون من المناطق المجاورة.
وينتقل
الشاعر بعدها لاستخدام حاسة السمع, فهو يسمع صدى صوتهم وهو ينطلق في الأفق
المفتوح, يقتنص الفرح من المكان ويحمله بين طياته ويحلق في الفضاء برائحته الزكية
وزغاريد النسوة ولا تكون الزغرودة إلا عند الفرح الشديد.
يرى
الشاعر تباشير النصر التي سيحققها الثائرون, يراهم يعبرون على وقع أغنية "
هيلا هيلا" التي كنا أشرنا إليها في البداية.
هذي ريحهم هبت/ كأنها الصبا الكسير/ هذا صوتهم
عبر المدى يتردد/ يملأ الكون عطراً وزغاريد وفلا
آ ..وي.. ها / هم وحدهم مروا فرادى/ وهذا صوتهم عبر المدى يتردد
هيلا هيلا / شدو الهمة الهمة قوية/ مركب ينده
عالبحرية
يا بحرية هيلا هيلا هيلا هيلا
أما التوطئة الثالثة فكانت بعنوان إيثاكا التي
يخاطبها وكأنها فلسطين, أو لنقل أنه يخاطب فلسطين من خلالها, ومدينة أوديسيوس الذي كان يرعى الأدب والفلسفة,
وعن إثاكا يقول الدكتور ضرغام الدباغ في مقالة له
بعنوان رحلة البحث عن إيثاكا التي نشرها المركز العربي الألماني للدراسات أن
الكتاب والمؤرخون يتعاملون مع إيثاكا على أنها مدينة الحكمة, وهي مدينة يونانية تقع في جزيرة معزولة, وشعبها مديني
يمقت النزاعات والحروب, لكن الوصول إليها وعر ومحفوف بالمخاطر وكل خطوة إلى
مدينة العلم والفلسفة هذه, محفوفة
بالمخاطر والصعوبات, عدا عن البحر الذي لا بد من عبوره في طريق الذهاب إليها, ولا
يعبر إليها إلا من يؤمن أن هذه المجازفة تستحق من أجل تعلم الفلسفة والرؤى
والأفكار والبحث عن الحقيقة ومعرفة الجديد
والتأمل وفتح آفاق نحو الأمل.
لكن أين الفلسفة الشعرية في استحضار إيثاكا؟ قد
تبرز الفلسفة الشعرية على عدة أوجه.
أولاً: الصعوبة في الوصول إلى المكان, والسير نحو
الهدف يتطلب تحمل المخاطر والتضحية.
ثانيا: أن وجود الاحتلال يشكل مشكلة ويعرقل العودة مثلما يعرقل البحر
الوصول إلى إثاكا .
ثالثا: يجب أن يتحلى الفرد بالإرادة والتصميم إذا
كان الهدف الذي يسعى لتحقيقه نبيلاً.
رابعاً: يستحق الوطن التضحية بالغالي والنفيس.
خامسا: فلسطين الخالية من الاحتلال ستكون مدينة
الفلسفة والحكمة والعلم كما هي إيثاكا.
وينتهي
الربط مع إيثاكا بجعل كلا المكانين محج
للحكمة وأن الطريق إلى كليهما محفوف بالمخاطر والصعاب, فنراه في حديثه عن فلسطين يجعل منها مطلع الضوء, وكأن الذاهبين إلى فلسطين سيسبرون عنان السماء, في
رحلة طويلة وشاقة إلى مصادر الضوء, إلى القمر والشمس والنجوم, وعندما يقول يطلع
الذاهبون إلى مطلع الضوء, يكون الطلوع عادة إلى الأعلى, وكأني بع يرى النقطة التي
سينطلقون منها, فهم سينطلقون من بين ظهرا نينا ولن نعرفهم من تاريخنا ومن
جغرافيتنا, وهم يعرفون المكان جيداً, لذلك سيقومون بفتح ما قد يستعصي فتحه من
أبواب مغلقة.
من هنا يطلع الذاهبون
إلى مطلع الضوء
من بيننا يفتحون
المغاليق والابواب
ثم يعود الشاعر إلى فلسفة الإحلال والدمج فيجعل من نفسه جزءاً من الحدث,
فحين الانطلاقة سيكون هنا هتافات تنسجم مع روح الانطلاقة وجمالها فنجدها تصدر ضوآ
له وقع مباشر على قلبه فيصحو من نومه, ليراهم ويعرفهم من ملامحهم التي رسمها لهم
في عقله الشعري ومن صوتهم المميز بقدرته على العبور إلى فضاءات, لا يعرفها إلا هم
ولا يدركها إلا هو, لتستمر فلسفة الإحلال فيدق نبضه على وقع العبور وكأنه معهم على
موعد, وينطلق بنبضه إلى هناك, إلى الوطن السليب ليصيح الكل بعدها رغبة بالذهاب إلى
هناك قائلين خذنا معك.
تضيء الهتافات قلبي
فأصحو.. هي ذي ملامحهم
وهذا صوتهم عبر المدى
يتردد, صوت على نبضي يدق
خذنا معك.
إلى أين؟ وهنا يأتي
الجواب من نفس السائلين والراغبين إلى الذهاب, هم يقولون أنهم يريدون الذهاب إلى
الوطن الخرافي السليب. وتكمن الفلسفة الشعرية هنا في إطلاق صفة الخرافي على الوطن
السليب, ولا غرابة إذا علمنا مكانة الوطن في قلب الشاعر فهو مسكون فيه, إذن سيكون
الشاعر مصيباً إن هو أضفى على الوطن طابع الغرابة والدهشة, لأن ذلك يتسق مع
العلاقة الثنائية بيته وبين الوطن وكذلك الذهنية النمطية التي رسمها له كوطن هو
أقرب ما يكون إلى الخيال.
وتأتي الفلسفة الشعرية
الثانية كما قلنا في التقريب والتشبيه بين المكانين, بل هنا يطلق الشاعر لقب
إيثاكا على فلسطين والدليل كلمة القريبة, فإيثاكا الأسطورة اليونانية بعيدة فتكون
هنا فلسطين هي إيثاكا الشاعر التي وصفها بالقريبة.
وينتقل الشاعر بعدها إلى فلسفة شعرية
جديدة تتفق مع عنوان الديوان والمقصود هو الحزن, فهو يؤكد لنا أن حالة الحزن أوصلت
الحقول إلى درجة النوم من الإعياء كمن ينام مضطراً, ويستبشر أن حالة السبات والنوم
هذه ستنتهي ببدء العبور وستستيقظ مهللة
مستبشرة, ثم يدخل الشاعر من جديد في فلسفة الإحلال لتحل روحه ومن معه وتتحلل مع
الحقول وتصبح جزءاً من تركيبته وتمتد مع قاماته وتحيله نخيلاً , وقد كان اختيار
شجرة النخيل موفقاً حيث تتمتع هذه الشحرة كما تقول رزان صلاح تحت عنوان فوائد شجرة
النخيل بميزات لا تتوفر في غيرها من
الشجر, فهي من الأشجار المعمرة التي كانت
مصدراً للغذاء والدفء في العصور القديمة والحديثة عدا عن ارتفاعها فهي منتصبة
القامة قد يزيد ارتفاعها عن العشرين متراً, إضافة
لفوائدها الصحية الكثيرة في علاج العقم والتقرحات. إذن كان الاختيار
لاعتبارات العمر والأصالة والارتفاع, ففلسطين في نظر الشاعر هكذا, متأصلة وشامخة ومعطاءة.
ثم ينتقل الشاعر إلى فلسفة الوحدة
الوطنية متكئاً على الكتب السماوية والأديان, ليؤكد على مسألتين, الأولى أن فلسطين
لها اعتباراتها المقدسة في الديانات الثلاث, ففيها مهد المسيح في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس الشريف,
وفي قدسها قبلة المسلمين الأولى ومعراج نبيه محمد وفيها مسجد ابراهيم الخليل في
مدينة الخليل, فلم تأت جملة نرتل القرآن في دروبها وجملة ونقرأ التوراة والإنجيل
اعتباطاُ, بل لكل مفردة رمزيتها ودلالاتها الدينية, هذا كله مدعاة للربط بين
المقدس والأرض, والثانية, أنه لا بد من عودتها إلى حضن
أصحابها, فكأنه بجملة خذنا معك متيقن من العودة والتحرير, فكل من سيرى الذاهب إلى
هناك يتمنى العودة مع العائدين, فيطلب ذلك بقوله خذنا معك.
خذنا إلى الوطن الخرافي
السليب" إيثاكا" القريبة/ لنوقظ الحقول من سباتها
نمتد في قاماتها نخيلاً
/ نرتل القرآن في دروبها/ ونقرأ التوراة والإنجيل /خذنا معك
لكن إلى أين؟ إلى هاتيك
المدن القريبة في المكان وفي القلب, إلى
القدس والخليل, ففيهما وفي كل المدن والقرى وفي كل مكان هناك الأحباب من الأهل
والأقارب والأصحاب. ويعود في هذه الفقرة لفلسفة الوحدة الوطنية, فهو لا يعترف
بالتقسيمات السياسية الحديثة, فكان لا بد من الربط القدس والخليل ويافا والجليل,
فقد طال الشوق وطال زمان المنفى والتشرد, سبعون عاماً, ونحن نحاول الوصول, أما وقد
تحقق الهدف وكان التحرير وكانت العودة, فخذنا معك...خذنا معك...خذنا معك.
خذنا إلى القدس القريبة
والخليل / لنلتقي الأحباب /خذنا إلى يافا والجليل
فنحن من سبعين عام..
نحاول الوصول.
أما التوطئة الرابعة
للقصيدة فهي بعنوان " العائد "
وفي
هذه التوطئة تأتي فلسفة الحسم والقرار, فلم يعد الشاعر يحتمل المنفى, فهو يرى
العودة لا بد آتية, وهو هنا يعود ليذكرنا بوجوده وحتمية الوصول إلى إيثاكا القريبة
, إلى مدن طال شوقها وانتظارها, لتلقي ثقل الاحتلال عن كاهلها, وتعود الامور إلى
نصابها, فهو يبدو هنا كمن يعد حقائب العودة والرجوع, وما أكثر هذه الصور في شعر
نضال القاسم, فهو حينما يقول
"أنا هنا!! قلبي تمزق
واحترق/ إني صحوت/ حان الموعد!!"
فهو
يريد التذكير بمأساة اللجوء التي نافت عن السبعين, وأنه ليس في وضع عادي, بل يعيش
كما هم المعذبين في الأرض, إنهم يتنفسون حلم العودة, ويأكلون من حلم الرجوع كل
صباح, إنهم يرون أنفسهم وهم يعتلون الشاحنات المحملة بأمل العودة كل حين, وأن هذه
الأحلام إن لم تتحقق ستأكل لحظات الانتظار من قلبه المثخن بالحلم وتمزقه, فقد
استيقظ الشاعر من حلم اليقظة ويريد أن يرى موعداً للتطبيق.
نرى
الشاعر في الفقرة التالية يعود إلى فلسفة
الوصف والربط , فهو إذ يذكرنا من جهة بشجر الصفصاف التي سبق ذكرها, ووصفها
بأنا ذبلت لأن الموعد طال, يعيد لأذهاننا
أن الراحلة التي سينطلق عليها تكاد تنفلت من عقالها, فهي قد أحيلت إلى لهيب ونار
بانتظار شارة الانطلاق إلى هناك. أما فلسفة الربط
فهي بين المكانين هنا وهناك, وقد عرفنا هنا أما هناك ففيها الأهل, وليت
الأهل وضعهم كما يريد أو يريدون, إنهم يعانون من الحصار, الحصار يعني صعوبة الحياة
وقلة الحيلة والحاجة والحواجز والجند المدججين بالسلاح والهدم والتدمير والقتل
والاعتقال, هذه هي ظروف الحصار.
ثم
تأتي فلسفة الاحلال لتلف البلاد ذراعها فوق جرحه الطري, فذراعه من ذراع البلاد
وجرحه من جرحها, والخطاب هنا خطاب تحريضي أي عليك يا وطني أن تسمو فوق الجراح,
وتنطلق حتى ولو بذراع ملفوف كسرها وتتخلص من حالة المعاناة والحصار.
صفصافتي ذبلت/ وراحلتي لهيب ونار/فأنا
هنا,/لكنهم,/أهلي هناك في الحصار
لفي ذراعك يا بلادي فوق جرحي الطري.
وتنهي
الفقرة الأخيرة بفلسفة التوكيد والنفي فهو من جهة يستخدم إن كحرف توكيد ليقول من
جديد "إني عائد " عدا عن التوكيد عن طريق التكرار, وهو من جهة أخرى يصف
نفسه بأنه سيكون ناراً على الأعداء. أما فلسفة النفي فهي باستخدام كلمة لن فهو يؤكد بالنفي أن رأسه سيبقى مرفوعاً
شامخاً ولن يطأطئ رأسه وما استخدام كلمة أبدا إلا تأكيد آخر بأن هامته ستبقى
مرفوعة, وبأنه على العدا سيكون جباراً, والجبار هي من القوة والتحمل والصبر, وتتفق
هنا مع المعنى العام للقصيدة بأن من معانيها من يجبر الكسر وقد سبق الحديث عن
الذراع ولفه, فمن الممكن للشاعر أن يقوم بجبر الكسر في الذراع ويتسامى فوق الجراح ويلتحق بالعائدين.
إني
عائد.. سأكون ناراً / أنا لن أطأطئ هامتي أبداً..
سأكون جباراً
إرسال تعليق