خليل الشيخ: النقد العربي يحتاج إلى التجدد معرفيا ومنهجياً
أجرى
الحوار: م . م البشتاوي *
منذ رسالتهِ في الماجستير “البطل الروائي العربي في مواجهة الحضارة
الغربية”، اختارَ الناقد والمترجم الأردني الدكتور خليل الشيخ المضي قدماً في
دراسةَ الأدب العربي مقابلَ الآخر الغربي، فكانت رحلتهُ تطوفُ في مدنِ العالمِ
وعينها صوبَ المُنجز العربي في الأدب، فتتالت في ضوءِ ذلك دراساته وكتاباتهِ
النقدية في الأدب المقارن فأصدر “باريس في الأدب العربي الحديث حتى الحرب العالمية
الأولى”، “باريس في الشعر العربي الحديث”، ونشر دراسات في مجلات مُحكمة منها
“الاستجابة الموضوعية: قراءة في نقد محمد حسين هيكل وتأثير النقد الأوروبي فيه”
و”المحاكمة والغرف الأخرى”، و”تجربة المرض بين سلـﭬيا بلاث وأمل دنقل”.
ولأن “اللغة مفتاحُ المعرفةِ” كما يقولُ ضيفنا، فقد ترجمَ عدداً من
الأعمال الألمانية، منها: “هلموت بوتيجر، ما بعد اليوتوبيات، تاريخ للأدب المعاصر
الناطق بالألمانية”، “الاشتراكية القومية في الشرق الأدنى العربي بين سنتي
1933-1939″، “يوميات فرانتس كافكا 1910-1923″،
وغيرها الكثير.
ورغمَ دراستهُ في ألمانيا، وإتقانهُ اللغة الألمانية، إلا أن الشيخ
درس أثر باريس في الأدب العربي، والسبب في ذلك أن العاصمةَ الفرنسية كانت “تشكل
فضاء حضاريا جاذبا للأدباء والفنانين” و”كانت تمثل يوتوبيا معاصرة، لذا أضفى عليها
الذاهبون إلى هناك طابعا مثاليا، وربطوا صورتها بالجنة، وإذا تأملنا صورة لندن أو
برلين في الأدب العربي فإننا لن نعثر لهما على تمثيلات أدبية واسعة الحضور”.
وفي ظلِّ الحديثِ عن “تبعية عربية” للنقد الغربي، يؤكد الشيخ المختص
في الأدبِ والنقدِ المقارن أن “النظريات النقدية الحديثة ليست من صنع الغرب وحده،
فقد أسهم كثيرون من الشرق والغرب في صناعتها، فقد أضاف إدوارد سعيد وإيهاب حسن
ومصطفى صفوان وإعجاز أحمد إلى النظرية النقدية وهم من أصول عربية وشرقية، كما أضاف
إليها نقاد آخرون يتوزعون على قارات العالم”.
مجلة نزوى في حوارها مع الشيخ، انطلقت من عتبة البدايات، فسألتهُ عن
الخطوات الأولى
التي قادتهُ إلى دروب الأدب والنقد، فأجاب:
يتطلب هذا السؤال البحث في الذاكرة والعودة إلى الطفولة وبدايات
الشباب. فعندما أعيد ترتيب تلك العوالم، أتذكر أنّ ثلاثة أشياء أسهمت في جذبي إلى
عالم الأدب: قصص الأديب المصري كامل كيلاني (-1959) التيكان مدير المدرسة يحضرها
لنا في حقيبة كبيرة من المدينة ويعيرها لنا نهاية الأسبوع. كانت تلك القصص تمتاز
بصورها الجميلة وعربيتها السلسة وخيالها الساحر وقد فتنتني حكاية شهرزاد وعوالم
الحكي الخاصة بها وهي عوالم كان طه حسين وتوفيق الحكيم قد توقفا عندها في كتاب
إبداعي مشترك هو ” القصر المسحور” صدر عام 1936، ولما عثرت على نسخة من الليالي في
مكتبة المدرسة في بدايات المرحلة الثانوية، وهي الطبعة التي “هذبها وصححها” الآباء
اليسوعيون قمت بقراءتها بحثا عن عوالم شهرزاد التي كانت حكاياتها تبني عالما من
اليوتوبيا الفاتنة. لقد جعلتني عوالم ألف ليلة وليلة أعيش في دائرة قصصية يصعب
الفكاك من سحرها الغريب كما سمته مارينا ورنر في دراسة تحليلية مستقصيه لليالي.
أما العامل الثاني الذي جذبني فكان الغناء الشعبي. فقد احتل الزجل
والحداء مساحة كبرى في القرية التي ولدت فيها في شمال فلسطين أو في مرج ابن عامر.
وقد لفتني منذ الطفولة إيقاع الغناء وما فيه من ارتجال وجناس وطباق، وكنت أظن
يومها أن الأمر لون من اللعب باللغة. وكنا ننتظر في الطفولة الأعراس لنستمع إلى
الغناء، الذي كان يخرجنا من رتابة الليالي في القرية، وكنت ألحظ أن بعض ما تعلمته
في المدرسة من شعر قابل للغناء على طريقة الزجالين، وكان ذلك يزيد من عشقي للشعر
الذي كنت أحفظه عن ظهر قلب دون مجهود يذكر، وساهم في منحي أذنا موسيقية. وقد جمع
توفيق زياد بعض تلك الأغاني وهنا أشير إلى ترويدة النصراويات التي كانت تثير الشجن
والأسى في نفسي وأنا أتأمل مرج ابن عامر الذي قطعته النصراويات وبعد أن قطعنه
أجهشن بالبكاء، وكانت الترويدة ترتبط بأجواء النكبة التي لم يكن مضى عليها غير بضع
سنوات.
أما العامل الثالث فكان عثوري في نهايات المرحلة الإعدادية على
مجلدات لمجلة العربي في مكتبة أحد أقربائي. فشرعت بقراءتها. وقد قادتني القراءة في
العربي إلى عوالم جديدة. فقد بنى رئيس التحرير الدكتور أحمد زكي مجلته، على غرار
بنية الجامعة، وكانت أبوابها تمثل كليات الجامعة وما فيها من تنوع وتعايش. وقد
فتحت العربي أمامي آفاقا جديدة، وجعلتني قادرا على تحديد، رغبتي فكنت أرى نفسي
ميالا للأدب والفكر، وأحببت منذ تلك الأيام كتاب الشهر الذي كان يعرضه أستاذي
الدكتور محمود السمرة، رحمه الله، الذي كان نائبا لرئيس التحرير. وقد شاءت الأقدار
أن يشرف على أطروحتي في مرحلة الماجستير وكان صاحب فضل كبير عليَّ بعلمه وخلقه
وإنسانيته. بعد ذلك أقبلت على قراءة طه حسين والحكيم والعقاد والمازني وسلامة موسى
ونجيب محفوظ وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم وهو ما تعمق
بعد دخولي إلى قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية، 1972 وكنت من أوائل المملكة
في الثانوية العامة في ذلك العام.
بعدَ أن قطعت مسيرتك
الدراسية في الأردن حتى مرحلة الماجستير، ذهبت لدراسة الأدب المقارن في جامعة
فريدريش ﭬـيلهلم في بون، ويُلاحظ أيضاً أن المنح الدراسية التي حصلت عليها جاءت من
مؤسسات ألمانية؛ فلماذا ألمانيا؟
اخترت أن أكتب في مرحلة الماجستير عن “البطل الروائي العربي في
مواجهة الغرب”، بمعنى أنني كنت منشغلا منذ وقت مبكر بالسرديات العربية الحديثة
وبرواية المواجهة وما فيها من علاقة الذات بالآخر كما تبدت في أعمال روائيين من
مصر وبلاد الشام من أمثال: طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وسهيل إدريس وعبد
الحميد السحار وصباح محي الدين وشكيب الجابري وفاضل السباعي وكوليت خوري وسلمى
الحفار الكزبري وعيسى الناعوري وجمعة حماد وغيرهم.
وكنت أسعى بعد حصولي على الماجستير عام 1980 وتعييني في الجامعة
الأردنية، للظفر بمنحة تمكنني من الذهاب إلى الغرب للحصول على الدكتوراه. أما
ذهابي إلى ألمانيا فجاء مصادفة، فقد كان الطلبة الأردنيون الذين يتم ابتعاثهم
للحصول على الدكتوراه من الدول الغربية يوفدون إلى المملكة المتحدة أو إلى
الولايات المتحدة الأمريكية. وفي ثمانينات القرن الماضي بدأت المؤسسة الأكاديمية
الألمانية للتبادل الثقافي، وهي مؤسسة علمية محترمة، بإعطاء منح للحصول على الدكتوراه،
وقد ذهبت إلى هناك في أكتوبر 1981 مبعوثا من جامعة اليرموك أيضا، وكنت الطالب
الوحيد في الإنسانيات، في حين كان جميع زملائي، في تلك الدفعة في مجالات العلوم
الطبيعية.
لكن ما قرأته عن الأدب والفكر في ألمانيا شجعني وشد من أزري. وأتذكر
أنني كنت قرأت ترجمة فيلكس فارس لكتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت. كتاب للكل ولا
أحد” التي صدرت عام 1938، وترجمة محمد عوض محمد لمسرحية فاوست لغوته التي صدرت
عام1929. وصار حلمي أن أتمكن من القراءة بالألمانية.
كان ذهابي إلى ألمانيا مصادفة، لكنه صار إصرارا على الدخول إلى عوالم
تلك اللغة. فاللغة مفتاح المعرفة. وفيما بعد عرفت أن فاوست كانت تمثل الروح
الأوروبية على حد تعبير اوزفالد شبينجلر في كتابه “تدهور الغرب”. وقد أمضيت في
ألمانيا قرابة خمس سنوات ونصف سعيت فيها للتعلم وبذلت ما في وسعي للحصول على
المعرفة.
لو عقدنا مقارنةً بين المترجم من الألمانية إلى العربية مقابل ما
جاءنا من باريس أو لندن، لمالت الكفة لصالح الآداب البريطانية والفرنسية؛ فما
السبب برأيكَ؟ وفي هذا السياق كيف تقيم الاهتمام العربي بالثقافة الألمانية؟
يعود ذلك إلى أن العرب انفتحوا على فرنسا أولا، فجاءت تجربة رفاعة
رافع الطهطاوي الذي اختاره والي مصر محمد علي وسليم العطار شيخ الأزهر يومها
ليرافق البعثة المصرية العسكرية الأولى الذاهبة إلى باريس التي سميت “بعثة
الأنجال” بصفته إماما لها عام 1824. وبعد عودة الطهطاوي إلى مصر أنشأ دار الألسن،
التي بدأت بالترجمة عن الفرنسية، وكان تلميذ الطهطاوي محمد عثمان جلال هو من تولى
تمصير الكثير من الأعمال الفرنسية، كما فعل المنفلوطي في تعريب بعضها. وقد أوضحت
في كتابي “باريس في الأدب العربي الحديث” طرفا من هذا الأمر، ثم بدأت الثقافة
الأنجلو سكسونية تزاحم الثقافة اللاتينية حتى سيطرت على المشهد الثقافي، وهناك
معركة أدبية شهيرة نشبت بين العقاد وطه حسين بعنوان “لاتينيون وسكسونيون”، تشير
إلى تحولات المشهد الثقافي مع العلم أن الكثير من المثقفين العرب اتصلوا بالثقافة
الفرنسية وترجموا عنها.
فيما يخص ألمانيا، كان ثمة صلات بين المثقفين العرب وألمانيا، لكنها
كانت فردية ومبعثرة. وهناك من يتحدث عن علاقة نشأت بين هارون الرشيد وكارل الكبير
الذي عرفناه باسم شارلمان. ولعل فشل ألمانيا في الحصول على مستعمرات في العالم
العربي، هو ما أسهم في ضعف انتشار اللغة الألمانية عندنا. لكن هناك من ذهبوا إلى
ألمانيا منذ وقت مبكر وأشير هنا إلى حسن توفيق العدل (1862-1904) الذي زار ألمانيا
وأقام فيها خمس سنوات واحتك بمستشرقيها وسياسييها وكان كتابه” تاريخ آداب اللغة
العربية” الذي نشره الدكتور وليد خالص ثمرة قراءته لأعمال كارل بروكلمان ومنهجه في
تحقيب الأدب العربي. وكان المؤرخ الفلسطيني الأصل، اللبناني الجنسية العلامة نقولا
زيادة أمضى ستة أشهر في جامعة ميونيخ لتعلم اللغة الألمانية من أجل الحصول على الدكتوراه
من لندن عام 1935. لكن المبعوثين المصريين الذين ذهبوا في أوائل الستينات إلى
ألمانيا شكلوا طلائع الدارسين العرب وأشير هنا إلى الأساتذة: عبد الحليم النجار،
مرادكامل، السيد يعقوب بكر، رمضان عبد التواب، محمود فهمي حجازي، مصطفى ماهر ومحمد
عوني عبد الرؤوف. ولا بد أن أشير إلى استقدام الجامعات المصرية لكبار المستشرقين
الألمان من أمثال: إنوليتمان وبيرجر شتراسر ويوسف شاخت وبول كرواس. وقد تحدث طه
حسين عن ليتمان في “الأيام ” مثلما تحدث عبد الرحمن بدوي في مذكراته عن كراوس الذي
أقدم على الانتحار.
ومع ذلك ظلت حركة الترجمة عن الألمانية بطيئة فقد نقل أستاذ
الجغرافيا في جامعة القاهرة محمد عوض محمد “فاوست”عن الإنجليزية مع الاستئناس
بالنص الألماني، وكان محمد عوض محمد تعلم الألمانية كلون من تحدي لغة المستعمرين
الإنجليز في مصر ونقل أحمد حسن الزيات “آلام فيرتر” لغوته عن الفرنسية، وترجم منير
بعلبكي رواية كافكا “المسخ” عن الإنجليزية. ونقل الفيلسوف عبد الرحمن بدوي الكثير
من الكتابات البحثية والإبداعية عن الألمانية. لكن العلاقة مع الإنجليزية
والفرنسية ظلت أكثر حضورا على مستوى المثاقفة والترجمة.
روايات عربية أقدم من “زينب”
يتحدث بعض النقاد والكتاب أن أول رواية عربية تعود إلى عقيل أبو
الشعر وحملت عنوان «الفتاة الأرمنية في قصر يلدز» الصادرة في العام 1912م في
باريس، متخطيا بذلك المتعارف عليه من كون “زينب” لمحمد حسين هيكل هي الأولى
والصادرة في القاهرة في العام 1914م؛ فما رأيك؟
ll ليست زينب لهيكل هي الرواية العربية الأولى، فهناك نصوص روائية عربية
أقدم منها ومن تلك الروايات التي أشرت إليها في سؤالك، هناك نصوص لخليل خوري
(1836-1907) صدرت بين عامي 1858 و1859، وهناك رواية لفرانسيس المراش تدعى “غابة
الحق” صدرت عام 1865 ورواية “الهيام في جنان الشام ” لسليم البستاني التي صدرت عام
1870 وليعقوب صروف روايات مثل: فتاة مصر، وفتاة الفيوم وأمير لبنان صدرت بين عامي
1907 و1908 وكان محمد المويلحي قد كتب “حديث عيسى بن هشام” في نهاية القرن التاسع
عشر ونشره في بداية القرن العشرين.
أريد أن أقول إن زينب ليست الرواية العربية الأولى، بمفهوم السبق
التاريخي، لكن ذلك لا ينفي ريادتها، فقد استطاعت أن تؤثر في السردية العربية
اللاحقة، وتم اختيارها لتكون أول فيلم مصري صامت وناطق. ولعل تأثير هيكل
وجريدة”السياسة” التي كان يرأس تحريرها، وتأثير قوة مصر الناعمة يومها أضاف لها
قيمة سياقية مضاعفة.
في
سياقٍ متصل؛ نجدُ أن ثمةَ إغفالا في الثقافة العربية لرحلة وأعمال ودور حنا ذياب
الأدبي مقابل الاحتفاء بنتاج ورحلة رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873) إلى باريس، رغمَ
أن رحلتهُ– أي ذياب وكتبها في العام 1764م – سبقت ما جاء بهِ الطهطاوي؛ فهل ثمةَ
قصورٌ لتأريخِ بداياتِ الأدبِ العربي ونتاجهُ في العصر الحديث؟، أم أن هنالك سبب،
أو أسباب أخرى؟
شخصية أنطون يوسف حنا دياب المولود في حلب عام 1688، لم تعرفها
الثقافة العربية إلا عندما أعلن المستشرق الفرنسي جيروم لنتان سنة 1993 في إطار
بحثه عن اللغات الدارجة بين العرب، عن مخطوطة مودعة في المكتبة الرسولية في
الفاتيكان كاتبها حنا دياب وصف بها رحلته إلى فرنسا. وقد أشار حنا دياب إلى
أنه قبل رحلته هذه بفترة وجيزة، حاول الترهّب في دير بجبل لبنان ثم تراجععن ذلك.
تعرّف حنا دياب على “سائح من سواح ملوكفرنسا”اسمه بول لوكافي حلب، وطلب منه الأخير
مرافقته كترجمان، لأنّ دياب كان ملما بقدر من الفرنسية (والإيطالية) والعربية
والتركية، ووعده بوظيفة في خزانة الكتب العربية في باريس.
يتجه حنا دياب مع رفيق رحلته إلى الصعيد في مصر ثم إلى ليبيا، وتونس،
وإيطاليا، مواجهاً العواصف والقراصنة وصولاً إلى مرسيليا. يتوجه بعدها نحو باريس،
ويقدم إلى الملك لويس الرابع عشر أحد الجرابيع غير المعروفة لدى هواة العلوم في
ذلك العصر، ويظل سنة قبالة جسر سان ميشيل، ويلتقي أنطوان غالان الذي ترجم ألف ليلة
وليلة إلى الفرنسية، فيحكي له حكايات علي بابا وعلاء الدين وغيرهما من الحكايات،
وقد امتدح بورخيس ما قام به حنا دياب الذي لقبه بالمستشار الغامض ووصفه بانه يمتلك
ذاكرة لا تقل خيالا عن شهرزاد. ثم يعود إلى حلب بعد أن أسهم أنطوان غالان في
إبعاده بحيلة ذكية وكانت عودته مملوءة بالمغامرات.
إن من الجلي أن رحلة حنا دياب تركت تأثيرا في الأوساط الغربية ولم
يكن لها تأثير رحلة رفاعة الطهطاوي في الثقافة العربية التي حركت المياه الراكدة
وصنعت حداثتها من خلال نشر وعي حضاري يرتكز على أسس جديدة. ولرفاعة الطهطاوي نتاج
لاحق وحضور مهم في الثقافة العربية، وليس لحنا دياب مثل هذا الحضور، لكن تجربته
التي حققها محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران وهما باحثان في جامعة ساو
باولو – البرازيل تظل كشفا فريدا في الثقافة العربية المعاصرة. والحق أنني عندما
كتبت عن باريس في الأدب العربي الحديث لم أكن قد عرفت تلك الرحلة المبكرة ولم أطلع
على ما كتب عنها إلا عام 2017 عندما نشرتها دار الجمل، لكن أهميتها لا تكمن في
سبقها الزمني بل في أسلوب مجابهتها للعالم وفي طريقة التعبير عن ذلك الأسلوب الذي
يحاكي أسلوب الليالي في بساطته وفي قدرته على بناء الحكايات وتوليدها والانتقال
برشاقة من حكاية إلى أخرى .ومن الطريف أنه وصف قصته بالمجراوية، والكلمة تعني ما
جرى لي، وهي مستعارة من قصة الزير سالم، فكأن حنا دياب يمزج بين السارد والبطل
معا، وهو يحكي ما عاشه من محن في تلك الرحلة.
جاذبية باريس للأدباء العرب
رغمَ دراستكَ في ألمانيا، إلا أنكَ اخترتَ الكتابة عن أثر باريس في
الأدب العربي الحديث؛ فلماذا باريس دون سواها؟
عندما كنت أقرا كتابات المفكرين والمثقفين العرب في نهاية القرن
التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لاحظت الحضور المكثف لهذه المدينة. فقد ذهب
إليها الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وعلي مبارك وفرانسيس المراش وتعلم فيها الشاعر
أحمد شوقي والشيخ مصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين وتوفيق الحكيم وزكي
مبارك ومحمد صبري ومحمد مندور وسامي الدهان وسهيل إدريس وعشرات غيرهم. وقد دون
هؤلاء تجاربهم، فحظيت باريس بمدونة عربية لا تقل أهمية عن تلك المدونة التي
تمتلكها تلك المدينة في اللغات الأوروبية. فقد كانت باريس تشكل فضاء حضاريا جاذبا
للأدباء والفنانين وسأكتفي هنا بالإشارة إلى تجربة شعراء ألمان مثل: هاينريش هايني Heinrich Heine (1856 – 1797) و
راينر ماريا ريلكة( 1875-1926) وباول تسيلان Paul Celan( 1920-1970) وكلهم
أقاموا في باريس ودخلت تجربتهم فيها في فضاء شعرهم .
كانت باريس تمثل يوتوبيا معاصرة، لذا أضفى عليها الذاهبون إلى هناك
طابعا مثاليا، وربطوا صورتها بالجنة، وإذا تأملنا صورة لندن أو برلين في الأدب
العربي فإننا لن نعثر لهما على تمثيلات أدبية واسعة الحضور، أما نيويورك على سبيل
المثال، فقد قدمها أدونيس على نحو مغاير لصورة باريس في قصيدته الشهيرة” قبر من أجل
نيويورك”. وليس من شك في أنّ الفرق الحضاري الكبير بينها وبين المدن العربية أسهم
في بناء تمثيلاتها على هذا النحو.
ترجمتَ عددا من أعمال كافكا، ولنتحدث هنا عن الترجمة؛ إذ يلاحظ أن
ثمةَ فرقٌا واضحٌا في الترجمات لأعمال هذا الأديب التشيكي بينَ ترجمةٍ مباشرةٍ لا
تحيطُ ببيئة الأديب ولغتهِ وفلسفته، وأخرى تأخذ في حسبانها تلك الاعتبارات؛
برأيكَ، لماذا تتباين الترجمة من مترجمٍ إلى آخر؟، وهل ثمة أدوات لا يمتلكها بعض
المترجمين العرب وما هي أبرز ترجماتك الأخرى؟.
قمت بترجمة “يوميات كافكا” وقد صدرت طبعتها الثانية عن مشروع كلمة
عام 2019 بعد مرور عشر سنوات على الطبعة الأولى.
تعددت ترجمات أعمال كافكا، وهذا طبيعي. كما نقل بعضها عن الإنجليزية.
لكن الراحل إبراهيم وطفي تولى نقل أعمال كافكا عن الألمانية، فيما سماه “فرانز
كافكا الآثار الكاملة مع تفسيراتها”.
اخترت اليوميات، لأنها لم تترجم إلى العربية من قبل، ولأن أهميتها
تكمن في أنها تتناول حياة صاحبها الذي شرع منذ أوائل الثلث الثاني من عام 1910،
وهو في السابعة والعشرين بكتابة يومياته، ومن ثم توقف عن كتابتها في الثاني من
تموز عام 1923 وهو على أبواب الأربعين..
تكمن قيمة اليوميات في كونها تمثل نصاً شارحاً لنصوص كافكا السردية
الأخرى، يضيء عوالمها ويفسر غوامضها ويبين طبيعة ولادة بعضها. وفي كل الأحوال،
فيوميات كافكا تبين طبيعة أزمات العالم الكافكاوي وما فيه من اضطراب وإحساس
باللاجدوى، فضلاً عن أنّ التدرج فيها يكشف ما طرأ على هذا العالم من تحولات، وإنْ
كانت كل حركة في اليوميات تتم في إطار ثوابت ذلك العالم المحكوم بالعجز وعبثية
الوجود. لكن كل هذا الشعور بالاغتراب والإحساس بالفجيعة والقلق الوجودي العميق،
كان يثير مسألة الهوية التي برع كافكا في التعبير عن إشكالاتها الكثيرة التي كان
يعيشها على شتى المستويات شكلت مدينة براغ فضاء يوميات كافكا التي عاش فيها ودرس
في جامعتها وعمل في مؤسساتها، وظل لا يرغب ولا يستطيع أن يغادرها. فاليوميات تكشف
عن أجواء كافكا وصداقاته وخيباته ومرضه وتشاؤمه ومحاولاته للتغلب على تلك الأزمات
التي أفضت إلى موته بمرض السل في سن مبكرة.
يعد فرانز كافكا، التشيكي المولد، الألماني اللغة، واحداً من أبرز
الروائيين في القرن العشرين، كما كانت حياته القصيرة حافلة بالمعاناة والصراع
والمرض والإحساس بالخيبة. وقد صارت الكافكاوية في الأدب دلالة على لون من الكتابة
يتسم بالسوداوية والوقوع في المتاهة. كما في رواياته الشهيرة «المسخ» و«المحاكمة»
و«القلعة». وتجيء يوميات كافكا بمثابة النص الشارح الموازي لتلك الإبداعات،
والكاشف لبعض سياقاتها والقادر على بلورة معالم العالم اليومي لكافكا، من لحظات
البداية، وصولاً إلى الأوقات الحرجة في حياته التي انتهت بمرض السل وبالوفاة في
مصح كيرلينج بالقرب من مدينة فيينا.
أما ترجماتي الأخرى فيمكن أن تنقسم على النحو التالي: أولا: ترجمات
خاصة بالأطفال والناشئة، حيث ترجمت عن الألمانية ما يزيد على 25 قصة للأطفال،
إضافة إلى خمس روايات للناشئة. وأود أن أشير إلى عملين مهمين للناشئة ترجمتهما
للكاتب الألماني بأول مار عام 2010 هما: أحلام يبل السعيدة وموسم حشرة البطاطا
وهما عملان على قدر كبير من الجمال والتميز.
ثانيا: أعمال إبداعية لروائيين ألمان أو ناطقين بالألمانية مثل:
هيرتا موللر، الحائزة على جائزة نوبل عام 2009 وقد ترجمت لها رواية “يومها كان
الثعلب هو الصياد” عام 2011، كما ترجمت عام 2011 للروائي إنجوشولتسه, رواية آدم
وإيفلين (رواية) التي صدرت عام 2008, ورواية الروائي السويسري بيتر شتام “سبع
سنوات” عام 2011.
ثالثا: ترجمت دراسات نقدية تتناول الأدب الألماني المعاصر كدراسة هلموت
بوتيجر، ما بعد اليوتوبيات، تاريخ للأدب المعاصر الناطق بالألمانية، دار أزمنة،
عمان، 2007 ودراسة غوستاف سايبت،غوته ونابليون، لقاء تاريخي، وهو كتاب طبع في
ألمانيا خمس طبعات في سنتين لأهميته، كما ترجمت دراسة عن توماس مان لأحد كبار
المختصين بأدبه وهو ميشائيل مار والدراسة بعنوان: الحجرة الزرقاء الدامية. توماس
مان وعقدة الذنب. مشروع كلمة،2014، كما ترجمت دراسة لم تصدر بعد عن ماكس فيبر.
وترجمت دراسة كتبها بوبر يوهانزنالذي عمل أستاذا في هارفارد عن محمد حسين هيكل
عنوانها: أوروبا والشرق من منظور واحد من الليبراليين المصريين.
كما تعلم فقد أثيرت حول كافكا سجالات واسعة بشأنِ ارتباطهِ
بالصهيونية، وكونكَ ملمٌّا باللغة الألمانية ودارسا لها، وترجمت لكافكا فهل لك أن
تبينَ لنا وجهةَ نظركَ في هذه المسألة؟.
كان طه حسين من أوائل الذين عرفوا بكافكا في أربعينات القرن الماضي.
ولعل اهتمام طه حسين به تولد في سياق اهتمام بعض الأدباء الفرنسيين به ولاسيما
الوجوديين منهم. لكن طه حسين قدمه في سياق يربط بينه وبين أبي العلاء ويتحدث عن
تمرده على أبيه وعلى اليهودية. وقد أثيرت صهيونية كافكا عندما نشر أنور الغساني
عام 1971 مقالا في مجلة الآداب البيروتية بعنوان: “هل كان كافكا صهيونيا؟”. ثم
نشرت بديعة أمين في بداية الثمانينات من القرن الماضي كتابها “هل ينبغي إحراق
كافكا؟” وقد ناقش هذه المسالة الدكتور عبده عبود في غير كتاب، ثم ناقشها عاطف بطرس
العطار في كتاب صدر مؤخرا عن دار المتوسط بعنوان “كافكا عربيا. أيقونة تحترق” وهو
في الأصل أطروحة \كتوراة كتبت بالألمانية عام 2009م.
وبصرف النظر عن هذه الإشكالية ومدى الاختلاف حولها، فإن موقف الإبداع
العربي يغاير تماما موقف النقد بهذا الصدد. فقد كان تلقي الأدب العربي لكتابات
كافكا يتسم بالتفاعل بعيدا عن تلك الأسئلة التي ناقشت جانبا منها اعتمادا على
اليوميات.
الأدب المقارن والعولمة
ربما نجد أهمية واسعة للأدب المقارن في عقود ما قبل العولمة، لكن
اليوم ومع انفتاح العالم حتى أصبح (قرية صغيرة)، أين يمكننا وضع هذا الأدب؟، وهل
فعلا قللت العولمة من أهميته؟
ولدت الدراسات المقارنة في الغرب في سياقات حضارية ومنهجية كانت
مرتبطة بعصري النهضة والأنوار. وجاءت ولادتها ضمن سياقات مرتبطة بتحولات فكرية
واجتماعية ومنهجية في الغرب. فقد جاء داروين بنظريته عن أصل الأنواع، وأوجست كونت
عن الوضعية ثم جاء نشوء الداروينية الاجتماعية وكتب إرنست رينان دراساته عن
التاريخ العام والمنهج المقارن للغات السامية، وكتبت مدام دي ستايل كتابها الشهير
“ألمانيا” الذي نادت فيه بضرورة الانفتاح على الآداب القومية الأخرى. وفي سياقات
مشابهة ولدت نبوءة غوته عن الأدب العالمي. باختصار مر الأدب المقارن في تطوره
المنهجي في أوروبا بمراحل اختلفت من حيث مراميها ومآلاتها وتصوراتها ومراحلها
التاريخية، لكنها تكاد تتفق على أهمية الأدب المقارن في رسم خطوط المؤتلف والمختلف
بين آداب الأمم، والتمييز فيما بينها، مع توضيح طبيعة العلاقات بينها.
وقد جاءت نظرة المقارنين الأمريكيين مختلفة للدراسات المقارنة، فلم
تعد تهتم بالصلات التاريخية أو بدراسات التأثر والتأثير وتبشر بضرورة التعاون بين
النقد والنظرية والتاريخ.
أما بخصوص ما طرحته عن الأدب المقارن والعولمة، فقد سعى أستاذنا
الدكتور حسام الخطيب للإجابة عن هذا التساؤل في كتابه “الأدب المقارن من العالمية
للعولمة”. حيث أوضح أنّ الأدب المقارن استقبل القرن الحادي والعشرين ” قرن العولمة
” بتساؤلات ومجادلات صاخبة حول تحديد منهجه ومنطقه ومنطقته ومستقبله وأدوات بحثه
وعلاقاته بالأنظمة الأخرى ولا يكاد يضاهيه في ذلك أي نظام معرفي آخر في دنيا
العلوم الإنسانية بوجه خاص ودنيا العلوم بوجه عام .وقد يرجع ذلك إلى حداثة هذا
النظام وتفجر الخلافات والنزاعات في داخله وحوله. وقد يكون ذلك ناجما عن طبيعة
امتداداته المنهجية والمعرفية إلى مختلف أشكال المعرفة المعاصرة بحيث تهتز جذوره
وأغصانه بقوة مع الاهتزازات الكبرى التي تتعرض لها الأنظمة المجاورة له عضويا
ولاسيما النقد الأدبي ونظرية الأدب.
العولمة هي عملية التداخل الثقافي بين أنحاء العالم المختلفة، وما
ينتج عن ذلك من تأثير ثقافي وسياسي واقتصادي. وهي تشير إلى توحد العالم بتوحد
المؤثرات الثقافية أو الحضارية، نتيجة الثورة في عالم الاتصالات بين المجتمعات
والدول، وانتقال المؤثرات من بلد إلى آخر بسرعة لم يسبق لها مثيل.
من هنا تبلورت مسائل الهوية والخصوصية التي تسعى للحفاظ على الخصائص
المميزة للهوية وعدم الذوبان في الهويات الأخرى دون أي انغلاق. وهو يعني أن دور
الدراسات المقارنة في هذا العالم لم ينته، بل صار يحتاج إلى تجديد في الأدوات
والمنهج والمنظور والمنطلقات المعرفية.
نلاحظُ أن الناقد العربي ناقلٌ للمفاهيم والنظريات الغربية النقدية؛
فهل تعتقد أن هنالك حاجة لـ “نظرية نقدية عربية” معاصرة تعاينُ وتشرحُ الآداب العربية؟،
أم أن المنقولات عن الغرب تفي بالحاجةِ؟
لا يختلف النقد العربي الحديث عن غيره من العلوم الإنسانية التي شكلت
مرجعياته، كالفلسفة وعلوم اللغة والاجتماع وعلم النفس والتاريخ وعلم الجمال
ودراسات التأويل. فكل مرجعيات هذه الدراسات غربية وليس ثمة من يطالب بعلم نفس عربي
على سبيل المثال. كما أن النقد العربي ليس مجرد ناقل للمفاهيم والنظريات. فهذا
القول اتهمت به الفلسفة العربية التي وصفت بأنها يونانية بحروف عربية. النظريات
النقدية الحديثة ليست من صنع الغرب وحده، فقد أسهم كثيرون من الشرق والغرب في
صناعتها، فقد أضاف إدوارد سعيد وإيهاب حسن ومصطفى صفوان وإعجاز أحمد إلى النظرية
النقدية وهم من أصول عربية وشرقية، كما أضاف إليها نقاد آخرون يتوزعون على قارات
العالم.
وقد تأثر الشعر العربي في المهجر وعند جماعة الديوان وجماعة أبوللو
بالرومانسية لكن هذا التأثر لم ينتج شعرا عربيا يحاكي رومانسية الغرب، المختلفة من
قطر لآخر وكذا الحال فيما يخص تأثير شعر الحداثة.
يحتاج النقد العربي الحديث إلى التجدد معرفيا ومنهجيا، والأمر ليس
لونا من التبعية الثقافية فما شهده النقد الغربي الحديث من تحولات واختلافات، يجعل
الحديث حتى عن نظرية نقدية غربية أمرا غير مسوغ.
شاركت
في تحكيم عدة جوائز عربية؛ برأيكَ ما أهمية الجائزة في مسيرة المبدع؟
لا تقتصر الجوائز على الأدب العربي وحده، فهي موجودة في الآداب
العالمية كلها. ومن الطبيعي أن يكون للجوائز دور في دعم المبدعين والمفكرين وفي
اكتشاف الطاقات الإبداعية الجديدة وأن يتنافس الأدباء للحصول عليها. ومن المهم في
هذا السياق أن أشير إلى ضرورة أن تتحلى الجوائز بالشفافية في إجراءاتها
وبالموضوعية في أحكامها وأن تهدف إلى البحث عن المبدعين المتميزين والمفكرين
والباحثين لتقدير عطائهم وإلقاء أضواء كاشفة على تلك الإبداعات، وعندما تفقد
الجائزة مصداقيتها، تفقد قيمتها. ومن الملاحظ أنّ انتقادات الأدباء والنقاد
والمفكرين للجوائز العربية والعالمية لا تتوقف، وهي انتقادات ينبغي أن تدرسها هذه
الجوائز وتفيد منها في تطوير أدواتها وجعلها أكثر إحكاما.
هنالك من يتحدث عن “أدب الجوائز” الذي صار يعد خصيصا للحصول على
الجوائز، وهناك من يتحدث عن النجومية التي صنعت النجم وأهملت المثقف. وهناك وهناك…
لكن السلبيات لا ينبغي أن تحجب ما للجوائز من قيمة ودور في تقدير الكفاءات واكتشاف
الموهوبين.
عملتَ
في سلطنة عُمان كأستاذ جامعي وباحث، وكانَ لكَ دورٌ في تحكيم الأعمال الأدبية خلال
فترة وجودكَ؛ فهل لك أن تضعنا في سمات الأدب العُماني في ضوء تجربتك؟ وهل ما زلتَ تتابعُ المشهد الثقافي والأدبي في
السلطنة؟
أمضيت ما مجموعه في هذا البلد الكريم أربع سنوات، كنت أستاذا في قسم
اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان قابوس لمدة ثلاث سنوات، ومستشارا لمجلة
التسامح التي صدرت عن وزارة الأوقاف. وكان ذلك من 1998إلى 2001 ثم من 2002 إلى
2003. وقد أتاحت لي هذه المدة قراءة الكثير من الكتابات الشعرية والسردية
العمانية. وهناك شعراء وروائيون وكتاب قصة قصيرة في السلطنة على درجة عالية من
التميز. وقد شكل الشعر هوية عمان الإبداعية كما الحال عند أبي مسلم الرواحي وعبد
الله الخليلي، وابن شيخان وعبد الله الطائي وغيرهم. وقد لاحظت إقبالا على كتابة
القصة القصيرة في السلطنة، وكنت ألحظ أن للكتابة السردية العمانية شخصية مميزة على
مستوى البنية وعلى مستوى المحتوى. ثم بدأ التحول في الكتابة الشعرية، وإذا كان من
الصعب الوقوف في هذه العجالة عند طبيعة التحولات، فإنني أكتفي بالإشارة إلى تجربة
سيف الرحبي وإلى تجربة محمد الحارثي، فهما تجربتان إبداعيتان مهمتان ولهما حضور
مؤثر في الثقافة العربية المعاصرة. مقدرا إسهامات الكاتبات والكتاب العمانيات في
إثراء المشهد الإبداعي العربي.
تناولت
في كتابك “السيرة والمتخيل” عدة تجارب لمُبدعين عرب، يُلاحظ مثلاً أن قصائد محمود
درويش في “لماذا تركت الحصان وحيدا” أحلتها إلى مشروع كتابة السيرة الذاتية عبر
الشكل الفني المتمثل في القصيدة، في حين كان كتاب سيف الرحبي “منازل الخطوة
الأولى” ينتمي إلى السيرة الروائية، والسؤال هنا: هل تدوين السير الذاتية يتخذ
أشكالاً فنية متعددة؟ أم ثمة تصورات نمطية أن السيرة الذاتية هي تأريخ يسردهُ
المؤلف؟
تنهض السيرة الذاتية على أنا بعينها لها وجودها المشخص وكيانها الحي
وهويتها المميزة ومنجزها المعروف. وهذه الأنا تحكي تاريخا الشخصي في خضم تاريخ جمعي
تتحرك في إطاره وتتشكل ضمن إيقاعه ونبضه. وقد أثارت هذه الكتابات تساؤلات حول مدى
قدرة هذا اللون من الكتابة على بناء نوع أدبي له شرطه الجمالي وبناؤه النوعي.
إن أبرز سمات السيرة الذاتية على المستوى السردي يتمثل في بناء تطابق
بين السارد والمؤلف والشخصية الفاعلة. وقد تحدث فيليب لوجون عن الميثاق السير
ذاتي، فالسير الذاتية تقترح، في تصوره، اتفاقا مع المسرود له يحثه على قراءة
السيرة بوصفها سيرة حياة الطرف الأول. لكن القراءة لا تفضي، في العادة، إلى رؤية
واحدة بل تقود إلى تأويلات شتى. فعندما يشرع كاتب السيرة بالحديث عن ذاته، يلحظ
أنّ هناك مجموعة من الذوات داخل تلك الذاتـ تنتمي إلى مراحل عمرية مختلفة، وتصدر
عن تجارب بينها الكثير من الاختلافات. ولا شك أن الكاتب سيسعى إلى توحيد تلك
الذوات في ذات واحدة تنمو وتصنع حكايتها وسرديتها. من هنا تنشا الصلة بين الذاكرة
والخيال، أو بين الواقع والمتخيل.
لقد نقل محمود رجب في كتابه القيم “فلسفة المرآة” عن مؤرخ الحضارة
لويس ممفورد أن استخدام المرايا في القرنين السادس عشر والسابع عشر شكل علامة
بارزة في تاريخ السيرة الذاتية، لأن المرآة تستطيع أن تحيل إلى ذات منفصلة عن
الطبيعة وعن الآخرين، وهو ما يذكر بكتاب أبرامز “المرآة والمصباح” الذي يشير
عنوانه إلى التقابل بين الرؤيتين الكلاسيكية والرومانسية وهو تقابل يعكس العلاقة
بين الذاكرة والخيال في السيرة الذاتية. وإذا كان أبرامز يشير إلى العلاقة بين
الانعكاس والتعبير فإن ذلك يشير في كتابة السيرة إلى الخارج ومرجعياته العديدة،
وقدرة الكتابة على صياغة ذلك في سياق منسجم ومترابط ومنسجم. وقد سبق لباول دي مان
أن أشار إلى الذات المموهة في السيرة الذاتية، لأن الذات تنتمي وهي تكتب سيرتها
إلى ما يسميه فولفجانج إيزر بالخاصية التخيلية التي لا تنتمي إلى الواقع الذي يعاد
إنتاجه في النص، ولا تنفصل عنه في الوقت ذاته. لذا يرى دي مان أن رسم الشخصية في
السيرة الذاتية قائم على المتطلبات الفنية الضرورية التي تحتاجها الشخصية ولسنا
ندري إن كان الكاتب ينقل الواقع إلى النص أم أن الصورة التي تتشكل عن ذلك الواقع
كما يقول دي مان هي ما يصنع النص.
لقد توقفت في ذلك الكتاب عند إحدى عشرة سيرة ذاتية تتوزع على غير بلد
عربي وتنتمي إلى أزمان متباينة تبدأ من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وتنتهي
بأعمال صدرت في مطلع هذا القرن.
وقد جاء تعبير درويش عن سيرته في إطار تجربة شعرية، أما سيف الرحبي
فقد جسدها في إطار سردي في ” منازل الخطوة الأولى ” الصادر عام 1991، وفي كتابي
الذي أشرت إليه في سؤالك قراءة لهذين العملين المهمين .
______________
المصدر: مجلة
نزوى
إرسال تعليق