في أكثرِ مشاهد "التغريبةِ الفلسطينية" انغراسًا في ذاكرتي ووجداني، تُفجعُ أسرةُ المناضِل أبو صالح (جمال سليمان) بخبر استشهاد ابنهم حسن (شقيق أبو صالح أحد قادة ثورة الريف الفلسطيني وشقيق علي الذي يمثل في العائلة الابن الذي يواصل تعليمه ويُعلي من شأن طموحاته). يبتعد علي عن نواح أمّه وبكاء العائلة على شهيدها، ويصفو لوحده عند أطراف المخيم، ويقدم كاتب السيناريو وليد سيف والمخرج حاتم علي الذي ودّعنا اليوم، مونولوجًا نثريًّا وجدانيًّا بليغًا، يحكي فيه عليّ عن خصوصية العلاقة بين شقيقه حسن الأقرب إليه عمرًا، وعما كان من الحياة معهما، وتاليًا النص الذي ورد في ذلك المشهد الخالد
"حسن.. ذلك الشابُّ النبيلُ الذي قاسَمني
وقاسَمْتُه عُمْرَ الطّفولَةِ وشِراعِ السِّنْديان.. ذلك الطِّفلُ الذي عَرَفَ
كيفَ يَحُلُّ لُغْزَ الأرضِ وطَلاسِمَ الماء.. كنتُ أتعلَّمُ لغةَ الكِتابةِ وقواعِدَ
النَّحو.. حينما كانَ يَتَعلُّمُ لُغَةَ النَّهْرِ والصَّخْرِ والسُّنْبُلَة..
كُنْتُ أمْتَطي المُعْجَمَ حينَ كانَ يَمْتَطي الرِّيحَ والعَواصِف.. كنتُ
أكْتَشِفُ الأسْئِلَة، حينَ كانَ يَعيشُ الأَجْوِبَة.. كانَ يظنُّ أنّي الجُزْءُ
الذي لمْ يَكَنْه.. والآنَ أعْرِفُ أنَّهُ الجُزْءُ الذي لمْ أكُنْه.. هناكَ في
مكانٍ ما أجْهَلُهُ وَتَعْرِفُهُ النُّجوم، يَرْقُدُ أخي حَسَن.. يَلَبَسُ جِلْدَ
الأرْضِ التي أَحَبَّها، وَيَسْتَعيرُ مِنْها نَبْضَهُ الجديد.. أنا هُنا أبْحَثُ
عنِ الوَطَنِ الضَّائِعِ في مَوّالِ شَعبي.. وَهُوَ هُناكَ يَكْتَشِفُ الأرضَ
فِيه.. على عَيْنَيْهِ ينْمو عُشْبُها وَزَعْتَرُها.. ومن جُروحِهِ تَتَفَتَّحُ
شَقائِقُ النُّعمانِ وَعُروقُ الشُّومَرِ البَرِّيّ.. هُناكَ هُوَ، تَكْتُبُهُ
الأرْضُ وَتُعيدُ كِتابَتَهُ في كلِّ فَصْلٍ من فُصولِها.. وأنا.. أنا الذي سَرَقْتُ
مِنْهُ الكِتابَ والمَدْرَسَةَ والمِحْبَرَة.. أنا هُنا أبْحَثُ عن الكَلِمَةَ
التي تَصِفُهُ.. أسْتَعيرُ جِلْدَهُ لِأكْتُبَ عليهِ شِعْري فِيه.. ولِأشْعُرَ
بِبَعْضِ الرِّضا.. لَعَلِّي أُتابِعُ حَيَاتي مِن جَديد...
حَسَن.. أيُّها الشّابُّ النَّبيلُ الذي
ظَلَمْناهُ وَأَنْصَفَتْهُ الأرْض..".
حاتم علي ووليد سيف، شكّلا في فورةِ الدراما
العربية ثنائيًّا استثنائيًّا بكلِّ ما تحملُ الكَلِمةُ من معنى. وَقَدّما معًا،
وثالثُهم الممثل جمال سليمان: "صقر قريش"، ثلاثية الأندلس، "صلاح
الدين"، إضافة لمسلسل "عمر" الذي لم يشارك فيه جمال سليمان. لكن
تبقى "التغريبة الفلسطينية"، وليس بسبب انحيازي الفطريّ لِفلسطيني، وإن
كان ذلك وارِدًا، علامةً فارِقَةً، بِحَق، في تاريخِ الدّراما العربية، ووثيقةً
حيّةً وعابِقةً بالسِّحْرِ والمعنى حَوْلَ مأساةِ الشَّعبِ الفلسطينيّ ونضالاتِه
التي خانَها القريبُ قَبْلَ الغَريب.
مفجعٌ رحيلك يا صديقي، يا عميق المعارف وزميل
كتابة القصة وصاحب الضحكة التي ملأنا بها شوارع عمّان في خريف العام 2004، واعلم
يا كُحْلَ العَيْنِ وعَبَقَ الجولان وَجَارَ مخيّم اليرموك، أنَّ كلَّ فَصْلٍ
بعدَكَ خريف.
___________
منقول عن صفحة الكاتب في (الفيس بوك)
إرسال تعليق