هل تسمحون لي بالزواج؟ .. أول ما قاله الشاعر في القاهرة.
في تجواله بين الكثير من العواصم العربية والأوروبية التي أقام فيها، خلف الشاعر الفلسطيني الراحل حراكا ثقافيا هاما، في احتكاكه بأهم الأدباء والشعراء والمثقفين، ومساهماته الثقافية الفعالة. وعلى غرار الكثير من الشعراء العرب، كان للشاعر دور صحافي بارز، بداية من إقامته في القاهرة، التي ظلت نوعا ما مجهولة مقارنة بإقاماته في عواصم أخرى.
محمد الحمامصي/ كاتب مصري
كان ولا يزال للشاعر الفلسطيني محمود درويش حضوره المتميز في مصر، حيث احتل مكانة خاصة لدى الأجيال الشعرية على اختلافها منذ الستينات وحتى الآن، ففيها صادق نخبة الشعراء والكتاب كصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين وأمل دنقل ورجاء النقاش وأحمد بهاءالدين وغيرهم.
الاحتفاء بشخص درويش وتجربته الشعرية في الصحافة المصرية وكتابها من الشعراء والأدباء والصحافيين سبق زيارته الأولى لها عام 1971، حيث كانت الصحف تنشر له وعنه، وقد امتد هذا الاحتفاء إلى المؤسسة الرسمية التي كانت تدعوه في كل أمسياتها الشعرية سواء تلك التي تقام بمعرض القاهرة الدولي للكتاب أو في المجلس الأعلى للثقافة، وقد منحته جائزة ملتقى القاهرة الدولي للشعر العربي.
في هذا الإطار يتتبع الشاعر والصحافي سيد محمود في كتاب بعنوان “محمود درويش في مصر.. المتن المجهول”، سيرة درويش في مصر دارسا وموثقا لعلاقاته مع شعرائها ونقادها وصحافييها واللقاءات التي أجراها والمقالات النقدية التي تناولت شعره، وكذا القصائد والمقالات التي نشرها هنا وهناك في الصحافة، متسائلا عن طبيعة تفاعل الشاعر الفلسطيني وتأثره بـ”البيئة الثقافية المحيطة” به في مصر ومدى تفاعله مع ما كان ينتج من الشعر المصري في تلك الفترة التي كانت حافلة أيضا بتحولات فنية ساهمت في تمييز بعض الأصوات الرئيسية في الشعر المصري، ليقدم لنا وثيقة مهمة لتاريخ وحياة أحد أبرز الشعراء العرب في مصر.
الشهرة عبر النصوص
يؤكد سيد محمود في كتابه الصادر عن منشورات المتوسط، أن تجربة درويش لا تزال مثار اهتمام القراء في العالم العربي وخارجه، كما لا تزال حياته خارج الكتابة مجالا خصبا للنقاش والشائعات. ومن بين كل تجاربه، ظلت تجربته في الانتقال من الأراضي المحتلة والعيش في القاهرة خلال الفترة من 1971 وحتى 1973 أقرب إلى “المتن المجهول”.
وقد لفتت نظره خلال أبحاثه الصحافية مقالات كتبها صاحب “الجدارية” في جريدة “الأهرام”، ومجلة “الهلال”، وهي مقالات لم يقترب منها ولم يتم إخراجها من ظلمة الأرشيف ولا نشرها في كتب. والمثير أن درويش في كتبه النثرية التي توالت، لم يكن حريصا على إعادة نشرها باستثناء مقاله “تنويعات على سورة القدس”، الذي أعاد نشره في كتابه “يوميات الحزن العادي” (1973)، المنشور بعد أيام من مغادرته للقاهرة.
ويرى الباحث أن هذه المقالات تتيح للقارئ فرصة التعرّف على مجمل التصورات الفنية لمحمود درويش خلال تلك الفترة، وفيها يطوّر فكرته الشهيرة عن ضرورة تفادي “الحب القاتل” وتظهر نفوره من اختزال تجربته في الشعر النضالي إلى جانب إبراز تصوّراته عن سلبيات أو إيجابيات المهرجانات الشعرية التي تنامت بغرض تأكيد الدور المقاوم للشعر، وتظهر معظم المقالات سخريته المريرة من حال الشعر في العالم العربي.
وهناك مقال كتبه عن تجربته في المشاركة للمرّة الأولى في مهرجان الشعر الدولي بروتردام، يعكس ثقافته العميقة وبدايات الصداقة التي نشأت بينه وبين شعراء كبار من مختلف أنحاء العالم، مثل الشاعر الجنوب أفريقي بريتن باخ أو الفرنسي ميشال دوغي، وآخرين تأخرت ترجمة أعمالهم في العالم العربي.
تجربة محمود درويش لا تزال مثار اهتمام القراء، كما أن حياته خارج الكتابة مجال خصب للنقاش والشائعات
ويشير محمود إلى أنه “في بعض المقالات ركز درويش على الشعر وهو الجانب الأصيل في تجربته، وانشغل فيها بتناول قضايا فنية وثيقة الصلة بالشعر، وهناك مقالات أخرى كانت عبارة عن تغطيات صحافية لبعض المؤتمرات والمهرجانات الشعرية التي شارك في حضورها في عواصم عربية وعالمية عدة، منها دمشق وبيروت وروتردام، وكان قد شارك في مهرجانات في صوفيا ونيودلهي، أما الصنف الأخير من مقالات درويش في الأهرام فيقع في باب التحليل السياسي”.
ويلفت إلى أن في مقالات درويش تحليلات مبكرة قدمها حول الشخصية الإسرائيلية وتأصل ظاهرة الخوف بداخلها، علاوة على إشارته المهمة حول عمليات الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، وعكست المقالات في جانب منها همومه كشاعر ينتمي إلى عرب الأراضي المحتلة. والأهم أنها تركز على إيمانه بما كان يسميه الكاتب الراحل أحمد بهاءالدين المواجهة الحضارية مع إسرائيل.
ويوضح محمود أن “درويش وصل إلى القاهرة، قبل أن يصلها فعليا في العام 1971 فالنصوص التي نشرت له في مصر قبل وصوله الجسدي صنعت منه نجما بكل المعايير داخل الأوساط الأدبية، فمجلة مثل ‘الهلال’ تحت رئاسة تحرير قامة صحافية كبرى مثل كامل زهيري كانت تحتفي بكل ما يخصه، وقبل مشاركة درويش في مهرجان الشبيبة بـ”صوفيا/ بلغاريا” والمعارك التي أثيرت بعدها، نشرت ‘الهلال’ بعدها بفترة وجيزة جدا في عدد مايو 1968 ديوانه ‘آخر الليل’ وهو من أوائل دواوينه التي كانت تنشر له بشكل شرعي خارج الأراضي المحتلة وجاء النشر بغرض إحياء ذكرى نكبة فلسطين”.
ونوه زهيري في تقديمه للديوان إلى أنه “النص الكامل لأحدث ديوان أصدره الشاعر محمود درويش في فلسطين المحتلة بعد 5 يونيو وقد صادرته السلطات الإسرائيلية. والأكيد أن نشر ديوان من الشعر ضمن مواد عدد خاص من مجلة ثقافية هي الأقدم بين مجلات الثقافة العربية مثل حدثا في ذلك الوقت، واعتبر درويش نفسه أن هذا النشر قدمه للقارئ، أكثر مما فعلت معه مجلة شعر البيروتية الشهيرة، التي احتفت بقصائد له ضمن ملف شعراء الأرض المحتلة لكن تأثيرها كان نخبويا بحكم طبيعة جمهورها في لبنان، وليس في السياق الجماهيري الذي يحبه درويش وأحدثه النشر في مجلة الهلال بتاريخها العريق، ولم تكن الهلال قد قامت قبل ذلك أبدا بنشر ديوان شعري، لذلك قوبلت نصوصه بترحاب كبير، ففي العدد الصادر بتاريخ 24 مايو 1968 من مجلة المصور كتب الشاعر صلاح عبدالصبور مقالا عن درويش عنوانه ‘القديس المقاتل‘ رأى فيه أن هذا الديوان ‘يتحدث للمرة الأولى بلهجة المشارك، لا بلهجة المشاهد، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل، ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده’“.
ويضيف “قبل ذلك أيضا كانت مطبوعات دار الهلال ‘المصور، الكواكب، الهلال، حواء’ بالغة الحفاوة بنصوص شعراء الأرض المحتلة، حتى إن مجلة الكواكب التي تهتم عادة بأخبار الفن كانت تنشر من حين إلى آخر نصوصا شعرية للأبنودي ونجم ولشعراء مصريين آخرين، لكنها كانت تنشر قصائد لشعراء فلسطينيين ونشرت لدرويش عدة قصائد بمقدمات لرئيس تحريرها رجاء النقاش، وفي عدد المجلة المؤرخ بتاريخ 26 مارس 1968 نجد قصيدة لدرويش بعنوان “الأرض ما زالت تغني.. قصائد جديدة للشاعر السجين محمود درويش” ومعها مقدمة قصيرة للنقاش قال فيها “إنه الشاعر الذي يعيش وراء أسوار إسرائيل يستطيع بقلبه وإيمانه أن يخترق هذه الأسوار ويخترق أيضا حدود الزمن ليرى أن المستقبل للعرب، فهم أصحاب الأرض وهم أهل هذا البيت البرتقالي المسروق: فلسطين”.
ويشير محمود إلى أن درويش عرف النشر في صحيفة الأهرام لأول مرة من خلال عبدالملك خليل الذي قدمه لقراء الأهرام في 31 مايو 1970 حين نشر قصيدة عنوانها “غزال ودم” ومعها لوحة جميلة رسمها الفنان محمد حجي، وبعد 8 أشهر فقط من نشر القصيدة كان درويش في مطار القاهرة.
الوصول إلى القاهرة
تشير الوقائع إلى أن رحلة درويش من موسكو إلى القاهرة تم تدبيرها إما بمعرفة عبدالملك خليل مراسل الأهرام بموسكو، الذي كان يؤدي أدوارا رسمية تتجاوز مسؤولياته الصحافية، أو بتدخل من الكاتب المصري الشهير أحمد بهاءالدين الذي التقى درويش خلال زيارة قام بها إلى موسكو في يناير 1971، ويبدو أن الفكرة طرحت قبل ذلك وخلال حياة الرئيس جمال عبدالناصر لكن موته أدى إلى تأجيلها لعدة أسابيع.
ويتابع الباحث “تؤدي كل الطرق للبحث عن أيام محمود درويش في مصر إلى ميدان كبير من الرحابة الإنسانية والكفاءة المهنية اسمه أحمد بهاءالدين، فهو كلمة السر في تلك الرحلة. يتشابه دوره إلى حد كبير مع الدور الذي لعبه الشيخ أبوالعلا محمد في حياة أم كلثوم وواصله شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق، فالأول أقنعها حين التقى بها لأول مرة أن مساحة صوتها أكبر من حدود قريتها، وعلمها الثاني أن الموهبة تحتاج إلى عقل و’صيانة’ لكي تدار بشكل صحيح.
قبل خروجه من فلسطين اختار درويش أن يكون تحت رعاية إميل حبيبي صاحب رواية “المتشائل” الذي كان”أبا روحيا” الذي علمه أنه بالخيال يمكن النظر إلى ما وراء الحدود، وحين التقى مع بهاءالدين في موسكو لأول مرة في يناير من العام 1971 تعلم درسه الثاني وهو كيف يدير موهبته ويرعاها لتكبر في المسار الذي يريد”.
ويقول الباحث “قدمت صفحات المصور ومعها بقية مطبوعات دار الهلال التي كان أحمد بهاءالدين رئيسا لمجلس إداراتها كافة أوراق اعتماد محمود درويش ورفاقه للقارئ المصري، وذلك قبل أن يلتقي درويش مع بهاء وجها لوجه، وكانت قصائده تقدم بالكثير من التقدير، وانطلق تعبير ‘شعراء الأراضي المحتلة‘، الذي صاغه غسان كنفاني من مصر وسجل بهاء له هذا الفضل بصفته أول من اهتم بالبحث والتنقيب عن الأدب الفلسطيني في إسرائيل ونشر عنه”.
ويرى سيد محمود أنه عقب وصول درويش إلى القاهرة لم يفكر ماذا يفعل فيها، فقد ترك نفسه في معية أحمد بهاءالدين، الذي ضمه إلى هيئة تحرير “المصور”، ويضم أرشيفها الكثير من المواد التي تؤكد عمل درويش فيها، فبخلاف القصائد التي ظلت المجلة تنشرها عقب وصوله إلى القاهرة، قدمت في عددها الصادر في 9 أبريل 1971 أي بعد حضور درويش بشهرين، مقالا له بعنوان “هل تسمحون لي بالزواج؟” وفي المقدمة كتبت التالي “هذا هو المقال الأول الذي يكتبه شاعر الأرض المحتلة بعد انضمامه إلى أسرة تحرير المصور”، ويبدو المقال وكأنه وثيقة دفاع أراد منها درويش تبرير اختياره للقاهرة مقرا لإقامته الجديدة.
ويوثق الباحث الصحافي أن “أرشيف الأهرام” يساعد على تتبع حضور محمود درويش في القاهرة منذ وصوله الذي كان احتفاليا على نحو ما، فقد نشرت “صفحة الدولة” ص 4 الشهيرة خبر الوصول على عمود أسفل الصفحة في يوم 10 فبراير 1971 بعنوان “شاعر الأرض المحتلة وصل إلى القاهرة”، ووصفته بأنه من بين من بقوا في الجزء المحتل من فلسطين قبل يونيو 1967، وظل شعره حافزا على المقاومة ممثلا لإصرار العرب على تحرير أرضهم المغتصبة.
وقالت الأهرام إنه سيعقد مؤتمرا صحافيا يلتقي فيه بالأدباء والصحافيين، وفي اليوم التالي مباشرة 11 فبراير ظهر حوار أجراه مع صديقه الشاعر معين بسيسو، وكان عنوانه “غيرت موقعي ولم أغير موقفي”، وتبدو صياغة العنوان تلخيصا لمحتوى بيانه الذي قدمه في المؤتمر الصحافي بعدها.
وقبلها كتب بسيسو الذي التقى مع درويش في موسكو وتوجه معه إلى نيودلهي لحضور مؤتمر أدبي هناك “رسالة من موسكو كتبها الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو”، ونشرها بجريدة الأهرام في 25 /12/ 1970 على مساحة كبيرة عنوانها “القبعة هي الكأس والحقيبة هي الوطن” محمود درويش.
_________
المصدر: العرب
إرسال تعليق