من مفكرة الطبيعة النهر ملاذا إسماعيل أبو البندورة
1-
النهر ملاذا
تمتاز بعض المدن بوقوعها على ضفة نهر، ويصبح
النهر بهذه المثابة شرياناً وجسدا رمزياً يحدد طابع المدينة وطبيعة أهلها، ويكون
لصيقاً بروحها ودوامها، ثم يتحول إلى كيانية عجيبة وأليفة لا تجعل المرء يمر بها
دون أن يتوقف قربها ومن فوقها من خلال الجسور التي تقام في العادة لعبور الناس
ووصل المدينة والأماكن ببعضها، ومع مرور الأيام يعتاد الناس على النهر وعلى الماء
الجاري فيه وعلى سقسقة الماء في بعض الزوايا والأطراف.
النهر إذن يحدد طبيعة المكان ومزاج
السكان، ويوحد الناس حول مجراه إذ لا أحد يجافي النهر أو يتخوف من أهواله ولا أحد
يخاصم النهر أو يتطير من جريانه، لا بل أنه في لحظات القتامة والعسر والكآبة يصبح
ملاذا يريح النفوس المعذبة ويخفف من حدة التوتر والانجراحات والكآبة ، ذلك أن
جريانه يوحي بالسلاسة ووداعة الانهمار، ويلهم بالراحة ومغادرة القلق، إذ أنه يتهيأ
للناظر المحدق في الماء أن الأمور ستجري كما يجري النهر والماء، فالنهر لاشك يولد حكمة
عفوية وإيحاءات رضية، ويشي بالرضا لأنه يجري ولا يعبأ بالماحول.
قرب النهر وحوله يشهد المرء أعراس الطيور وهي
تطير وتؤوب ويراها وهي تمارس فرحها بالطيران ومقاربة الماء وارتشاف المتعة، وينفتح
الأفق هنا على مهرجان مجاني يمارس فيه الطير والماء لعبة الطبيعة البديعة الرائقة،
كما تنفتح للناظر مباهج الحياة ويسرها وبساطتها وهي تخلق الفرح من اللاشيء ومن أقل
الممكنات.
وقفت مرّة على ضفة نهر "نيرتفا"
العابر لمدينة "موستار" البوسنية وقرب جسرها الشهير الذي دمرته الحرب
وأعيد بناؤه، وبدوت ساهماً أقرب إلى الحزن وعندما سألني الأصدقاء: نراك ساهماً ؟
فقلت إنني حزين وأسأل: متى يكون لنا نهر وحياة بهيجة مغايرة؟ متى يكون لأرواحنا
ملاذات قرب الماء والأنهار؟ متى يكون لنا مهرجانات طيور فوق الماء؟ وعدت للتحديق
في الماء وربما في العدم كما كان صديقي مؤنس يقول عندما كنا نذهب للمشي قرب بحر
بيروت !
2- القمح
الأخضر بحرا
كنا في قرانا نقف على
حواف سهوب القمح وقفة المتأمل المتعجب المحب، وكانت بلادنا في زمن ما تدعى منابع
ومستقرات القمح .. كان السهل يشع اخضرارا في الربيع وكانت السنابل تطل برؤوسها
المملوءة قمحاً ونماءً تتمايل بأمواج هامسة وتتحول إلى بحر فيه موج وهمس وحفيف.
ودرجنا في الربيع أن
نهرع إلى القمح سهلا وبحرا رمزياً متخيلا وشرشفاً أخضر نفتح بين شتلاته وسبلاته
دروبا نمر منها إلى حقول أخرى، وكنا نفترش القمح عندما نتعب متوقنين بأن القمح
سينهض ثانية مع ندى الفجر ولن يموت السبل ونحن نفترشه ونعانقه. وعندما كان
ينهض السبل ويمتد الشرشف الأخضر في كل الأنحاء كانت النساء الفلاحات ينتشرن على
الروابي والتلال المحيطة يلتقطن نباتات تسمى الجنى، وكنت تسمع الغناء والزغاريد
تنطلق في كل الأنحاء تعلن الابتهاج بالوطن الأخضر وبما تطلعه الأرض من نبات وبما
يمكن للقمح أن يطلعه من حبّ غزير يحقق للناس المأكل ودوام الحياة .
تقطّع هذا البحر بعد أن شح المطر والماء وتضاءلت الهمة لدى الناس وهجمت كتل
الخرسانة على سهول ومرابض القمح والآن نرانا بلا بحر اخضر وبلا قمح وفير وبلا
سنابل مكتنزة ودروب عفوية نعبر منها إلى السنابل، أو ترانا بلا اخضرار وبهجة كما
كنا في زمن بعيد.
وذات يوم التقيت بالمثقف شاكر بين دروب القمح وكان مثلي يحب القمح والسنابل وأهداني كتاب " الأيام" لطه حسين " ومذاك غدوت أتذكر كتاب طه حسين والقمح معاً واترحم على شاكر وغياب بحرنا الأخضر !
إرسال تعليق