تجربة التشكيلي السوري «سموقان»…
عوالم أسطورية قادرة على تجسيد الواقع / حميد عقبي
يرسم التشكيلي محمد أسعد الملقب بـ «سموقان»
الواقع السوري بصيغة فنية ورؤية جمالية تستحق التأمل، كونها تغوص بنا إلى عوالم
ميتافيزيقية وأسطورية، تقدس الإنسان والأرض السورية، حيث نجد الفنان شديد الالتصاق
بها، يفتخر بانتمائه إليها، ويكرس فنه لينشد قصائد بصرية، يقدس من خلالها الحياة
وينتصر لها، ويسخر من الموت وبشاعته.
الوعي الفني
سنجد حالات كثيرة يغيب فيها الأحمر والرمادي والألوان الغامقة، لتكون البطولة للأزرق والأخضر والألوان المفرحة، هنا لا يعني أن الفنان منفصل عن واقعه المتخم بالحروب والدمار والموت والتشرد، نحن مع فنان يعبر عن واقعه بصدقٍ وبرؤية فلسفية جمالية تقدس الرغبة للحياة وتتعارك مع وجوه الموت، أي أنها تؤمن بالحب والسلام، تؤمن بقوة الإنسان صاحب الحضارة العريقة، وأن ما يحدث من بشاعة وشر لا يمكنه أن يطمس ويهزم الروح العاشقة للجمال.
يرتكز سموقان في تجربته الفنية على أسس فكرية وجمالية، وثقافة عميقة للتراث
الحضاري السوري والإنساني، يمتلك أيضا ملكة إبداعية في كتابة القصة القصيرة،
بأساليب سينمائية وهو جزء فاعل ومتفاعل مع المشهد الفني التشكيلي والثقافي السوري
في الداخل، إضافة إلى تقديمه الوجوه الفنية السورية بمختلف مشاربها، في الكثير من
المعارض التي ينظمها وينسق لها، وقد جعل من بيته مرسما ومعرضا للفن السوري، وليس
لشخصه وتجاربه، في أغلب أحاديثه وحواراته يتحدث عن غيره ولا يحيط نفسه بهالة من
الأنا كما يفعل الكثيرون.
مشهدية اللوحة
تتسم لوحات سموقان بمشهدية ديناميكية تفوح بعطر
الشعر، وهي مشبعة بالألوان حد التخمة الجمالية، يتمسك الرجل بالواقع، لكنه قد ينوع
من تقنياته وأساليبه، تهتز اللوحة بلمسات تجريدية قد تهدم المعنى الواحد، لتخلق
جدلا وجدانيا وروحيا عميقا، المشهدية ليست ركضا وراء دراميات بتأثيرات وقتية،
فمثلا في لوحته «كل الأزرق جسدي»، هنا يجمع بين قط ووجه إنساني يلتوي، نكاد نُحس
بنظرات هذا القط، الألوان بسيادة الأزرق تعطي ضجيجا كرستاليا، حضور القطط والكلاب
والعصافير، تأتي تعبيرا دلاليا عن الأرض، يخلق سموقان الدلالات ثم يهدمها، ويعيق
مسار تدفق معاني محددة بسيطة كونه يغوص بنا لعوالم ميتافيزيقية وأسطورية متعددة.
وعلينا أن نتوقف مع مشروع سموقان، الذي سماه «أبجدية الأزرق» حيث تصبح كل الألوان
زرقاء، وهنا سنكون مع لغة بصرية جديدة غرائبية، حيث تأتي بطريقة توليدية تغري
المتفرج، تستفزه وتغتاله، وتحضه على الركض مع الخيال والحلم والسحر.
مخاطبة البصر والبصيرة
اللوحة بالنسبة لسموقان هي الفضاء الأكثر صدقا
للبوح الإنساني والرغبة بالسعادة، يميل إلى المواضيع الرومانسية، ويبرز الجمال ضد
القبح والبشاعة، يضع اللون فوق اللون، خاصة الأزرق ليخلق منه دهشة حافلة بتدرجات
رقيقة وحساسة تجذبنا إلى جزئيات روحانية، يعتمد على ما يسميه (الإظهار) في وقت
محدد وزمان معين، لذلك يعارض مسمى فكرة اللوحة مسبقا، وصناعة الأفكار والرموز،
الفن هنا يخاطب البصر والبصيرة معا، لكل خط وشكل وضربة فرشاة شكلا خاصا، روحا
وموسيقى خاصة وهي تتلاحم في توليفة بصرية، سمفونية يريدها أن تثير البهجة ليستيقظ
الحلم في دواخلنا.
وجوه مشعة بالخلود
يعشق سموقان الأجواء الأسطورية القديمة، وأقام
معرضا خاصا عن جلجامش، نجد المناخات الميثولوجية تحضر بأشكال متعددة، مثل
الحيوانات الأسطورية والغابة ويصرح دائما بأنه ابن اللاذقية وابن أوغاريت، وصديق
لبعل وجلجامش، هنا قد نلاحظ أن الوجوه التي يرسمها تشع بالخلود والقوة، تكون طرية
ولينة كأنها قادرة على التشكل والحركة، وتملك أرواح أنصاف الألهة، لكل وجه نظرته
الخاصة، كأن اللوحة لا تنتهي ولا حدود لها، وتحيلنا إلى تخيل ماوراء الأطر، فكثيرا
ما نصادف أشياء ذات أهمية كبيرة قرب الحواف، كما أن نظرات الوجه الإنساني أو
الحيوانات أو الطيور توسع فضاء اللوحة، يميل سموقان أيضا للمزهريات، وقد يكون رأس
شخصيته يشبه المزهرية أو يكون قاعدة تقف عليها حيوانات كما في لوحته «لا تنقصنا
إلا المحبة».
أعمال تلعن الحرب
الفنان هنا يعني المقاومة والتبشير بالأمل،
يتمسك بالحلم ويسمي لوحاته بمسميات ذات دلالات عاطفية حالمة، رغم قسوة الواقع،
لكنه لا يبيع خيالات وأوهام زائفة، حيث أننا سنجد أعمالا كثيرة تلعن الحرب وتصفع
الموت، وكذلك يوجه سموقان نقدا لاذعا لتجار الحرب، وللبشاعة التي تورثها الحرب، في
أعماله الأخيرة «لها.. لقيامتها» سنجد لمسات تراجيدية وألما إنسانيا صارخا، لكنه
ليس من دعاة الموت، لذلك يظل يصارع أدوات التعاسة، وتظل شخصياته قوية ومحبة، في
إحدى اللوحات، سنجد شخصية العمل تضم القط كأنها تحميه من البرد والجوع والحرب.
حاليا يتفرغ سموقان ليرسم من أكلتهم الحرب وهدمت بيوتهم وعرّتهم، الذين يعانون
ويتمسكون بأرضهم، هؤلاء يستحقون القداسة والخلود كونهم يتحدون أعنف أنواع الشر،
ويحملون في قلوبهم الأمل والحب ويلقنون بصدق وبطوله هذا العالم دروسا حية وجديدة
عن الإنسانية والحب.
٭ كاتب يمني مقيم في فرنسا
*القدس العربي
إرسال تعليق