من بقعة كاشفة، يُطلّ منها الراوي عارضاً وجهات نظر شخصيات الرواية في ما يحدث معهم وبينهم، كلٌ من زاويته. الراوي عالِم ومطلّ على كل ذلك، بتركيز على تأثير الوقائع والأحداث على الشخصيات، بموضوعية وحياد. فلم تتورط الكاتبة في اختيار أو تبني وجهة نظر أيّ من الشخصيات.
صالح حمدوني |
تبدأ الرواية زمنيا في أواسط الثمانينيات، تبدأ بتحذير "انتبهوا" يتبع إشارة الكاتبة أن شخصيات الرواية فرّت من الورق وتوزعت في الأحياء العربية واصفة إياها بالقنابل الموقوتة في إشارة إلى أن الكاتبة تركت لشخصياتها حرية الحركة داخل الرواية، وحرية القارئ في إسقاط فهمه للشخصيات لتتطابق مع ما يراه ويُعايشه في أي مكان عربي. لذا سيتبادر إلى الذهن أن في كل مدينة عربية (شميساني) خاص بها، وشخصيات مثل نوال الحالمة العالقة بين أحلامها وطموحاتها، ومثقف مزيف ومدعٍ مثل ربحي، وتاجر مستغِل مثل عبد الجليل، ومراهقة تائهة مثل ندى، وفاشل لم يجد من يُعينه مثل نادر.
لكن الانتباه الذي تدعو له الكاتبة هو السؤال: الانتباه لأيٍ؟ لفشل الانظمة الحاكمة في حماية الفئات الاجتماعية وتحافظ على حياتها وكرامتها؟ أم الاشارة إلى الأسباب التي تدفع إلى تبني فكر متطرف تعبيرا عن غضب وجهل وفشل؟
نوال-المرأة الخمسينية- تشهد تحولات فارقة مرت على مدينتها عمان
وثقافة أهلها وسلوكهم.
تتذكر سيرتها، أحلامها وطموحاتها بأن تنتقل إلى مكان أكثر رقياً مثل الشميساني، وإلى طبقة اجتماعية أكثر رفاه كالطبقة الوسطى، لتجد نفسها وبعد عقدين من العمل، أنها ابنة فئة "لا تقوى على ابتياع نظارة فاخرة، ولكنها لا تتدلى في حاوية قمامة"ص10
بعد عقدين من الأحلام والسعي والزيف تكتشف أنها ما زالت تنتمي إلى
الطرف القاتم، على هامش الحياة المترفة، وقد نسيت تماما كيف تورطت في ضاحية
الشميساني التي لا تشبهها، في شقة في الطابق الأوسط وكأن صاحبها "يحدد
مكانتنا التي لن نبرحها إلا هبوطا"ص19.
نوال سقطت في فخّ زوجها بسهولة بداية تعرفها إلى عالم الشميساني المثالي وقفتذاك. لتكتشف أن خطابه المثقف والواعي مجرد ثرثرة، وأن نضاله كلاما في كلام، ويقضي وقته في التجسس على رفاقه ويكتب تقارير أمنية ركيكة عن ما يدور في أروقة المقاهي وحجر الجمعيات.
عبر زمن الرواية تعرض الشخصيات خلال تطورها عدة تبدلات حدثت: تبدلات في دور السلطة وفي الوعي وفي رؤية المكان.
"طُويت صفحتي كأني لم أخدم بقلمي وعرقي وجهدي واجتهادي"ص67. هكذا يعبر ربحي وبحسرة واستنكار وتساؤل عن تنكر السلطة لخدماته بعد أن دخلت البلاد مرحلة التحول الديمقراطي، فما عادت خدماته ذات قيمة. يضاف إلى ذلك تحول الدولة إلى سياسة الخصخصة فتقول نوال"التعليم الحكومي ينهار، والمدارس الخاصة توفر نمطاً جديدا راقيا"ص73، في وقت تفتقت ذهنية الرأسمال عن الاستثمار في قطاعات كانت تقوم الدولة بدورها فيها، مما خلق نمطا استهلاكيا جديدا شكل عبئا إضافيا على كاهل الفئات الاجتماعية جعلها تراوح مكانها إذا لم تهبط اجتماعيا واقتصاديا. عبر عن ذلك التاجر عبد الجليل الذي تطور طموحه من صاحب بقالة إلى سوبر ماركت، ثم أصبح ناقما على المولات الجديدة التي غزت عمان ولم يكن قادرا على مجاراتها.
تذهب الرواية إلى التأكيد على تغير في وعي الناس بانتشار الفكر الديني، نتاج الحملة التي قادتها دول ووتيارات دفعت الشباب إلى الانخراط في العمل الجهادي في افغانستان ولاحقا في سوريا، مدفوعون بالفقر والجهل والفشل.
كريم ابن التاجر مدمن المخدرات والسارق، ونادر ابن نوال وربحي الفاشل في دراسته وعمله والمستهتر في حياته اليومية. يقول عبدالجليل عن زوجته:"تغيرت محتويات خزانتها من الفساتين الأنيقة إلى الجلاليب الرمادية السوداء"ص79
تتبدل صورة عمان-الشميساني تبعا لتطور زمن الرواية، والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثرت على البلاد وعلى شخصيات الرواية. ف"الشميساني التي كانت منطقة هادئة وجميلة"ص7 تحولت إلى فخّ عند نوال.."المكان الذي فتنها وناسه وأجواءه، البيوت الجميلة المسورة وحدائقها المزدانة بالورود، حيث يختبئ الياسمين وشجرة الكولونيا تفوح من زاوية ما ليعبق الشارع كله بالعبير....فيما كان سكان الحسين يزرعون أشتال السجادة والخبيزة في تنكات السمنة وأصص الفخار"ص13
عند ربحي "لم تكن أكثر من مكان يُنيخ فيه البدو إبلهم ونوقهم لتتشمس، من هذا التاريخ طلع إسمها الغريب.مكان مخادع يتظاهر أنه قلب المدينة النابض...سنوات طويلة وانا احاول هضم المكان واحتماله"ص64
عند ربحي الشميساني هي مكان طارد للألفة منذرة بالوبال.
وتبعا لتطور نفسية ربحي في الرواية يصل إلى "معا نلعن عمان
كأنها خصمنا المشترك، وكأنها المدينة الوحيدة في هجمتها السادية على الأجساد
الراجفة...عمان التي نقطنها كفأرين في مخبأ"ص260.
نوال الساخطة التي فقدت انتماءها للمكان تزامنا مع فقدانها الأمل بتحقيق شيء من أحلامها تصل إلى سؤال-إجابة"هل يعني ذلك أني أحب المكان ؟ تبدو تلك فكرة مضحكة ...إن التعود حول المكان إلى كتلة حجرية من الضجر ..حتى أنها تتمنى أي تحول درامي يشطب الحياة الي لم تمنحها الرضا يوما"ص214
في النهاية تتحول الشميساني عند نوال إلى "أجواء خانقة، مدينة بلا نسيم ولا ضوء شفاف، ولا نغم حزين...بلا حب .هي إذن المدينة القفص، وأنا في المنتصف أقفز في مكاني ولا أصل إلى قمةعالية ...تطبق بوحشية وغل ّعلى أنفاسي حتى أختنق"ص218
رواية بقعة عمياء للروائية الأردنية سميحةخريس، روايةعن تفكك
الاسرة، تآكلها وتشظي وعيها .
عائلة نوال تواجه هذا المصير، الأب يأكله المرض، الأم معلقة بين طموحها وعلاقتها المشوهة مع جارها التاجر، البنت الكبرى تخضع لفرصة زواج من ثري في الخليج يكبرها بسنوات عديدة لتتخلص من عائلة لم تربيها ومن علاقات حب فاشلة. والابن يلتحق بالمجاهدين في سوريا هاربا من ذاته وفشله وجهله .
التاجر تتفكك عائلته، الإبن يدمن المخدرات ثم يجاهد في أفغانستان
والزوجة تنشغل بلقاءاتها الدينية .
هل كانت شخصيات الرواية -اجتماعيا ونفسيا واقتصاديا - تمثل نموذجا
للطبقة الوسطى التي أشارت الكاتبة إلى أن الرواية تتحدث عن انهيارها في الأردن؟
هل كانت التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت على
البلاد مؤثرة على الطبقة الوسطى المفترضة؟ مع ملاحظة أن الروائية لم تنتبه إلى
تسلسل أهم الأحداث التي أتت على ذكرها في الرواية (قرار فك الارتباط عام 1988، هبة
نيسان 1989، اجتياح الكويت 1990)، مما خلق حالة ارتباك في الفصل الأول من الرواية.
لا شك أن خبرة سميحة خريس الروائية انتجت عملا مميزا بلغته الهادئة
وشخصياته القريبة من نماذج حياتية مألوفة
إرسال تعليق