في كافة المراحل التاريخية للفنون، يمكن ملاحظة ذلك، وإذا ما استرجعنا في قراءتنا، ما أفرزته ذاكرة الفن العالمي من مدارس ومناهج فنية، توالت في بنيات المسار التاريخي لكل المشاريع الفنية، التي أنتجتها مخيلة الفنانين، سنجد ذلك يبرز شاخصا في ما أنتجته الحضارة الأوروبية من أساليب ومدارس فنية، كانت لها الريادة عالميا في إحداث هذه التعددية، وهذا التنوع في رؤية العمل الفني، على سبيل المثال يتجسد ذلك في اللحظة التي كشفت فيها الرومانسية عن حضورها في الرسم، حيث لم يكن من الصعب العثور عليها في الشعر أيضا وفي بقية الفنون الإبداعية، وهذا الحال يمكن الاستدلال عليه في السيريالية والواقعية والانطباعية والرمزية، وغيرها من الاتجاهات والمدارس الفنية.
حمولات فلسفية جديدة
التأثر المتبادل هنا بين الفنون لم يكن للصدفة دور في إيجاده، ومن غير الممكن اختزال أسبابه إلى التقليد والاستنساخ، إنما تقف وراءه قوة دافعة تكمن في البيئة الاجتماعية بكل روافدها الثقافية، وما تحمله من إرهاصات فكرية تعبر عن تطلعات الإنسان إلى اكتشاف عالم آخر على أنقاض عالم قديم، وسيكون من الطبيعي أن هذه الإرهاصات تبقى غامضة في شكلها وصورتها النهائية لدى الأغلبية من العامة، التي لا تمتلك القدرة ولا الموهبة ولا الإمكانات الاحترافية للتعبير عنها، وهنا يبرز دور الفنانين في تحويل هذه الهواجس إلى سرديات مرئية، سواء في قطع نحتية أو لوحات أو أشرطة سينمائية، إلى غير ذلك من الفنون، وفي المحصلة النهائية سنقف أمام علاقة وثيقة تربط معظم الفنانين في لحظة تاريخية، ليكون نتاجهم وكأنه ينطلق من إلهام يحمل الكثير من التطابق، من غير أن يكون ذلك مقصودا من قبل أي واحد منهم، بالتالي سيفضي إلى خلق بيئة ثقافية تحمل خصوصيتها الفنية، من حيث الأسلوب والقيم الجمالية التي تطرحها.
بطبيعة الحال هذا المناخ الجديد الذي تعكسه مجمل الحقول الفنية، بما تطرحه من مخزون جمالي جديد على مستوى الشكل والتقنيات والطروحات، لن يصل إلى منصة المتلقين بسهولة، وسيحتاج إلى وقت قد يطول كثيرا، كما تشير إلى ذلك معظم التجارب التي تخرج بعيدا عن البنيات النصية القائمة والمتداولة، وسيبقى لفترة ما هذا المناخ الغريب بجمالياته وقيمه، التي تقف خارج حدود العالم الفني المعروف بجماهيريته، وغالبا ما سيجد تيارا واسعا يقف ضده ويرفضه، سواء من الفنانين أنفسهم، أو من المتلقين، لأنه لا يعكس الأشكال الفنية المتفاعلة مع الذائقة السائدة، بل يعبر عن رؤى تبتعد عن معجم المصطلحات المتداولة، وتطرح مصطلحات جديدة بحمولاتها الفلسفية والجمالية، بالتالي سيتمخض عن ذلك مناخ فني جديد يصبح له فنانوه ونقاده وجمهوره.
مع أهمية المتلقين في العملية الفنية، إلا أنهم في المحصلة النهائية يخضعون في النهاية إلى الممارسة الفنية التي ينتجها الفنان في بعدها التفاعلي مع الواقع، والتي تفضي إلى خلق صوت في الفضاء التواصلي بينه وبين المتلقي
النزعة الإنسانية
هذا التحول في القيم
لابد أن ينعكس على المجتمع، بالشكل الذي يجعله منقسما على نفسه من حيث القبول
والرفض لكل ما يتعلق بالمعجمية الجديدة، التي يطرحها النتاج الفني في أشكاله التي
لم تكن داخل منظومة ما هو سائد من أساليب فنية، ولا بد أن نطرح هنا سؤالا بديهيا:
ما الذي يعجب المتلقين في العمل الفني؟
هذا السؤال على بساطته الظاهرة، إلاَّ انه في غاية التعقيد والصعوبة، لأننا من غير
الممكن الإحاطة بما يتراكم من إرث ثقافي ومرجعيات نظرية لدى المتلقين، تتحكم في
تحديد ذائقتهم، لأن هذه العوامل هي التي توفر لنا الفرصة لمعرفة كيف يقرأ المتلقون
العمل، ومن أي زاوية ينظرون إليه، وبالتالي يمكن أن نفهم عن ماذا يبحثون في
قراءتهم، منطلقين من التراكمات التي تحدد ذائقتهم، ومع ذلك يمكن أن نتفق على مسألة
جوهرية يلتقي عندها المتلقون بمختلف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، تتمثل في أن
معظمهم يعجبون بالعمل الفني عندما يتمكن من أن يلامس الجانب الإنساني فيهم، وينجح
في أن يحقق تواصلا مع مشاعرهم، ومن غير أن يتضمن خطابه نضجا وتطورا في تقنياته،
وهذا بخلاف النقاد وجمهور النخبة، الذين غالبا ما يبحثون عن الإضافة الفنية في
التقنيات والخامات المستعملة، وفي زاوية الرؤية إلى الموضوع في بعده الفني
والإنساني، وحسبما نرى فإن جهود الفنانين الذين يحملون في داخلهم نزعة التجديد لا
يتقصدون وبشكل قسري أن يحمِّلوا عملهم جرعة إنسانية، وإذا ما لجأ الفنان إلى ذلك
فلن يفلت من مصيدة التزييف والاصطناع، ولن يتمكن من خداع المتلقي مهما انساق بعمله
إلى المراوغة بالمبالغة في تجسيم الشكلانية في عمله، وعلى العكس من ذلك تتسلل
النزعة الإنسانية بين تفاصيل الموضوع بنعومة وبشكل إيحائي وكأنها غير موجودة.
حضور الواقع
مع أهمية المتلقين في العملية الفنية، إلا أنهم في المحصلة النهائية يخضعون في النهاية إلى الممارسة الفنية التي ينتجها الفنان في بعدها التفاعلي مع الواقع، والتي تفضي إلى خلق صوت في الفضاء التواصلي بينه وبين المتلقي، في هذا السياق يمكننا ملاحظة العلاقة الوطيدة التي تجمع الفن مع المتلقين بشكل دائم، حتى في الحالة التي يكون فيها المنتوج الفني جديدا، وغير مفهوم، لأن الفن في الإجمال ليس بالضرورة أن يصل إلى كل المتلقين، وعندما لا يصل إلى الكل، هذا لا يعني أن صلته بالواقع باتت بعيدة، ومن غير الممكن أن يبتعد الفنان عن الواقع في عمله الفني، بل يمكن القول إن كل عمل فني يبدو ظاهريا لا يستنسخ الواقع، ويغترب عنه، سنجده في حقيقته يحتوي على جود واقعي، فالواقع موجود مع الفنان ولا يستطيع الإفلات من حضوره ومراقبته له.
تجاوز التجربة الذاتية
إن الفنانين الذين
يمتلكون ذهنية متوقدة، ومشروعا فنيا يُفعِّلونَهُ، من خلال بنية فلسفية تأخذه إلى
إنتاج بلاغات جمالية تشيع الدهشة والبهجة والتأمل لدى المتلقي، ومن ثم تضعه أمام
متعة طرح أسئلة والبحث عن إجابات، لها بين الخطوط والألوان والجمل والإيقاع
والمفردات، حسب طبيعة العمل الفني، ومثل هؤلاء يتعدى دورهم كفنانين يمتلكون
الموهبة والتقنية والحرفية والمهارة والذكاء، ليرتقي وجودهم في المشهد العام، وليس
في إطار الوسط الفني فقط إلى مستوى فريد من التأثير بالشكل الذي يُغنُون العالم
بحضورهم الكلي، فيصبح أكثر سعة وثراء، مثلما هو الحال عند رينيه ماغريت في الرسم،
هنري مور في النحت، بيتر بروك في المسرح، فاغنر في الموسيقى، وفرانسيس فورد كابولا
وستيفن سبيلبرغ في السينما وآخرين مثلهم لهم التأثير نفسه، ومن المؤكد أن أمثال
هؤلاء لا يعنيهم المتلقي أثناء استغراقهم في العمل، بقدر ما يكون جل انشغالهم
تجاوز ذاتهم، وتنقية تجربتهم من تجربتهم ذاتها، والوصول بها إلى نقطة انطلاق جديدة،
لأن كل التكرار في الفن ليس له أي قيمة، والجديد يوفر الفرصة أمام فنانين آخرين،
ويفتح أمامهم أبوابا ويجيب على أسئلة، بالتالي من الممكن أن تُولد إيقاعات
وتنويعات جديدة من هذا الجديد نفسه، لنقف أمام مناخ عام يسود الحياة الفنية
والثقافية.
___________
٭ كاتب عراقي
القدس العربي
إرسال تعليق