العلاق: قصيدتي لم تقع في التجريد أو الشكلية الفارغة
حاوره : عمرو العزالي
مؤخراً، فاز الدكتور علي
جعفر العلاق بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية عن فئة الشعر في دورتها الـ16،
وهو ليس التقدير المعنوي والمادي الأول الذي يحصل عليه الشاعر والناقد العراقي
الذي يعد من أهم من أوجدوا مداخل للتفاعل بشكل حقيقي مع قصيدة الحداثة العربية، ثم
قصيدة النثر، وبداية من ديوانيه (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء) في عام 1973، ثم وطن
لطيور الماء 1975، وكتابه النقدي الأول (الشعر والتلقي)، يمكن للقارئ أن يلج إلى
عوالم علي جعفر العلاق التي شيدها من خلال استقراء ذاته وعالمه، وعرض فيما تلاها
العديد من أسراره كقارئ وكشاعر..
وقد شارك العلاق، هذا الأسبوع، في فعاليات برنامج ملتقى القاهرة الدولي الخامس للشعر العربي، والذي يحمل عنوان "الشعر وثقافة العصر- دورة ناجي والسياب"، والذي ينظمه المجلس الأعلى للثقافة، بصفيه الشعرية والبحثية، مع مجموعة من الشعراء والباحثين العرب، فكانت (مصر) هي المدخل لحوارنا معه..
- ماذا تمثل مصر لعلي جعفر العـلاق كشاعر وباحث ومثقف بالأساس؟
-لا يمكن الحديث عن ثقافة عربية حقيقية دون مصر، التي تربينا على
الكثير من قيمها الجمالية في الفن والأدب والثقافة. وفتحت أعيننا على الكثير من
مفردات الحوار مع العصر وتحدياته.
هناك جانب شخصي وشعري يشدني الى هذا البلد
ومثقفيه ومبدعيه . ففيه حظيت تجربتي الشعريه على انتباه مبكر. وكثيراً ما أفاجأ
بِشعراء وأدباء مصريين، ومن أجيال شتى يتابعون ما أكتب ويتفاعلون معه برهافة
عالية. وقد ربطتني بالكثير من مبدعي مصر ومثقفيها،ومنذ شبابي الشعري الأول، صداقات
أعتز بها كثيراً.
يضاف الى ذلك فإن عدداً من دواويني استقبلت بحفاوة كريمة من المؤسسات الثقافية، إذ نشرت أعمالي الشعرية في مجلدين في المجلس الأعلى للثقافة ، وكان قد نشر لي قبل ذلك مختارات شعرية. كما صدرت لي عن هيئة قصور الثقافة مختارات شعرية موسعة بعنوان عشبة الوهم، وقبلها نشرت لي الهيئة مجموعة شعرية بعنوان : ممالك ضائعة .
-ما انطباعك عن الفعاليات الأدبية التي تقام في مصر بشكل عام،
والمؤتمر المقام الآن بشكل خاص؟
- بالنسبة لملتقى القاهرة الشعري، كان حافلاً بالجلسات والندوات
النقدية وأمسيات الشعر. استمعنا الى مقاربات متنوعة في قراءة النص الشعري ، وفي
الحديث عن السياب وناجي، وفي فضاء الشعر، كان هناك الكثير من الأصوات التي حلقت
عاليا من الشعراء الراسخين ومن الشباب الذين يتجهون الى مستقبلهم الشعري بثقة .
وأنا هنا أحيي القائمين على هذا الملتقى المرموق وفي مقدمتهم الناقد الكبير الدكتور محمد عبد االمطلب . وكنت أتمنى أن يتم في الدورات القادمة طبع المداخلات أوالبحوث ليتاح للحضور الاطلاع عليها مسبقاً ، لخلق جو من النقاش العميق والمسؤول .
-هل حقق حصولك على جائزة العويس مؤخراً إحساساً جديداً لديك؟ أم أن
المبدع يمكنه أن يعتاد التقدير حتى يتلاشى أثره عليه؟
-الإحساس بالرضا ضروريّ للشاعرأوالكاتب، ينتعش به داخله الإنسانيّ
ومخيلته المبدعة. وهو إحساس لا يشيخ ولا يفقد قيمته بالتقادم، لأنه يرمم إيمانه
بأن الإبداع لا يزال يجد، في هذه البرية الموحشة، من يصغي اليه، ومن يحس بجدواه،
في عالم يفقد كل يوم بعض مرتكزاته الروحية الصلدة.
حين علمت بحصولي على جائزة العويس عشتُ لحظةً
وجدانيةً عميقة . القصيدة لم تذهب في المتاه، إذاً، كما توهمت في لحظة من لحظات
الضجر والإحساس باللاجدوى.. كان هناك من ينتظر مرورها في اللحظة المناسبة. هناك من
يقول للشاعر، وهو غارق في مكابداته أوعزلته المضاءة بالحنين، أنه في الطريق
الشعرية الصحيحة.
إن جائزة العويس، كما في كل الجوائز الكبيرة
الأخرى، تمنحها مؤسسة ثقافية مرموقة. تستند، في عملها، الى حلقة نوعية، من النقاد
والمتخصصين، تتمتع برصيدٍ عالٍ من الترويّ وتراكم الخبرة والمتابعة.
وتظلّ حاجة القصيدة أومبدعها، قائمة، الى كل امتنانٍ حقيقيّ، مهما كان حجمه. يتساوى في ذلك دفقةٌ من طيورٍ مصفقةٍ يطلقها جمهورٌ نابهٌ، أوحكمٌ يتم التوصّل اليه في قاعةٍ أكاديميةٍ رصينة مبرأةٍ، الى أقصى حدٍّ، من وطأة الشلليات وزئير القبائل .
-ماالمعاني الأخرى التي يمكنك استخلاصها من هذا الحدث المهم في
مسيرتك الشعرية ؟
-أما المعنى المهم الآخر فيتمثل في حيوية الشعرية العراقية، طوال عمرها الحافل بالجديد والمختلف. فهذه الشعرية لم تكن، يوماً ما، جدولاً صغيراً يتدلى من نهر الشعر العربيّ، أوتابعاً من توابعه. بل كانت على الدوام رافداً من روافده الأساسية ، إن لم تكن أهم تلك الروافد في الكثير من الأحيان، وكانت في طليعة التحولات الشعرية العربية. ولو تأملنا سجلّ جائزة العويس للشعر تحديدا، لوجدنا أن للشعر العراقيّ حصة كبرى في هذا الحقل. لقد حصل على هذه الجائزة قبلي شعراء مميزون في المشهد الشعري العراقي: محمد مهدي الجواهري، عبد الوهاب البياتي ، سعدي يوسف، وحسب الشيخ جعفر.
-خاض الكثير من النقاد معارك موت البلاغة، في حين أنك تسجل لها
حضوراً خاصاً، فما ملامح هذا الحضور من وجهة نظرك؟ وما ضروراته؟
-لا شعر ، بالنسبة لي، دون لغة شعرية خاصة، دون وقدة المجاز،
واجتراحات المخيلة ونزواتها ، وهذا هو الفضاء الذي اشتغلتْ فيه وعليه قصيدتي
دائماً. فاللغة الشعرية التي تتتطابق أوتقترب من مرجعياتها الواقعية تظلّ لغة
معتلة، وناشفة. لأنها لغة الوثيقة، أوالمعلومة، أوتملّق الوجدان العام.
ثمة إشارة ذكية ، في قرار لجنة التحكيم ، كانت شديدة التأثير بالنسبة لي. تحدث ت فيها اللجنة عن التميز والاسهام المتواصل" في تغذية الشعر العربي المعاصر بما هو متجدد في صور بلاغية مدهشة ومخيلة واسعة وصلت ما بين تراثنا الحضاري وواقعنا الثقافي "، وهي إشارة تؤكد ما عملت على ترسيخه في قصيدتي من دور المخيلة وحيوية اللغة ومفاجآتها من جهة، وصلة هذه القصيدة بالتراث واستثمار ما فيه من طاقات كامنة. إضافة الى ذلك فإن قصيدتي لم تقع في التجريد أوالشكلية الفارغة، بل كانت هناك دائماً: في مهمتها الحضارية دون ضجيج، ودون مزايدات. كانت تقف راسخة "في صف القيم الكونية من عدل وكرامة وآخاء".
-تبتغي محاولات المبدع غالبا الوصول إلى صيغة نهائىة لعلاقته بنفسه
ولمعنى وجوده، بكل مكونات هذا الوجود، فهل وجد على جعفر العلاق في الرحلة الطويلة
أجوبة مرضية له عن سؤال "لماذا أكتب؟"؟
-يظل الشعر أشد فنون التعبير صلة بكرامة الإنسان وتفتح روحه على
الجمال والخير والحقيقة. وتظل منجزات الشاعر شهادته الجمالية على ما هو كائن في
زمنه الراهن، وحلمه بما يمكن أن يكون عليه العالم في أزمان قادمة .القصيدة صيحة
الشاعر في وجه المستبدين وأعداء الجمال، وهي دفاعه النبيل عن كرامة البشر .
لقد كتبت قصيدتي، وسأظل أفعل ذلك، لأنها الطريقة الوحيدة التي كانت تشعرني أنني بشر، وأنني جزء من حلم الناس بحياة أجمل، والمعبر عن هذا الحلم .
-كيف أفاد الشاعر على جعفر العـلاق من طبيعة عقله الناقدة؟ وكيف
أفاد الناقد من التقاطات الشاعر وحدوسه؟ وما ملامح المساحات البينية المتحققة بين
الشاعر والناقد بداخلك؟
-أحسست ، ومنذ وقت مبكر، أن هاتين الملكتين كانتا مفتوحتين على
بعضهما بعضاً. وهما في حالة من الجدل الدائم . وهذا كلام طالما كررته وإن بصياغات
مختلفة. أقول بإيجاز شديد ربما: كلما شغلت بقصيدتي الخاصة، وكلما عشت معها وفيها
محنة اللغة ، وأوردتني موارد المراوغة ، أوالحيرة، أوالصمت المؤقت، وتقليب الحلول،
انعكس ذلك كله على أول مواجهة لي مع نصوص الآخرين. وكأن هناك، في عملية الكتابة،
تبادلاً لكل شيء: تراكم الخبرة، واختراق المتاهات، ومراوغة الفشل أوالتأجيل.
والعكس صحيح تماماً، فالعودة من لغة الآخرين، بعد معايشة نصوصهم ونسيج رؤاهم، تعود عليّ بالكثير مما يمكن الإفادة منه، لأن نضح أخيلتهم ونباهة حلولهم لعسر الممرات، واكتشافهم طاقات الخيال وقدرته على بناء التجانس من قلب التضاد وارتجال العوالم الراقية سيندرج ، لا محالة، في خزين المران والممارسة .
-ما الصيغة الأقرب لتحقيق شعرية اللغة من وجهة نظر حضرتك: اللغة ذات
المجاز الظاهر أم اللغة التي تبدو يومية واعتيادية وخالية من المجاز؟
-اللغة الشعرية لا تتمثل في المجاز وحده. المجاز جزء مهم من لغة القصيدة ولكنه لا يمثل كل عناصر هذه اللغة. يمكن للغة الشعرية أن تندلع من تماس حيّ بين حضور المجاز وغيابه في النصّ الشعريّ الواحد. كما يمكن للغة اليومية أن تحمل طاقة شعرية عالية ، لكنّ ذلك يتوقف على الشاعر نفسه، وطريقة تصريفه لهذه اللغة، وتفجير ما فيها من مفارقات، وتضاد، وانزياحات.
-مؤخراً كتب الدكتور صلاح فضل أن الشعر العربي "بعافية"
ويعاني من وعكة شديدة،
هل توافقه حضرتك؟ ولماذا؟
- يبدو لي أن هذا الإحساس لم يتشكل اعتباطاً، خصوصاً وأنه من ناقد متمرس ودقيق الملاحظة. فالأفق الشعريّ العربيّ ملبد بما يجعل هذه الملاحظة وجيهة الى حد كبير، أكاد أقول إن هناك تراجعاً ملحوظاً، في القصيدة العربية الراهنة، على ومستويات متعددة: مستوى المخيلة المبتكرة، وضمور الوجدان ، واهتزازالتميز بين الأصوات الشعرية . يضاف الى ذلك هذا الضخّ النقديّ الذي يبشر بزمن الرواية على حساب الشعر ، ثم هجرة الكثير من الشعراء الى فضاء السرد.
-هل هناك، في رأيك، معضلة مركزية يمكن إرجاع هذه الظواهر السلبية
اليها ؟
-لديَّ إحساس يكاد يرتقي الى اليقين القائم على المراجعة، أن المشكلة تتعلق بالمفهوم، أقصد مفهوم الشعر، والمعيار الذي نميز بمقتضاه بين الشعريّ والنثريّ في القصيدة العربية في لحظتها الراهنة.
شخصياً لا أعارض الشعر بالنثر، بل يكون التعارض
الحقيقيّ، بل يجب أن يكون، بين الشعر الحقيقيّ والنثر العاديّ، بين القصيدة وزناً
أونثراً ، وبين النثر الخافت،الذي لا يشعّ، ولا يستفزّ قدرة اللغة، ولا يلذع
الروح، والذي يسهب دون دواعٍ شعرية.
وقد يتساوى في ذلك قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر:
قصيدة الوزن التي ترى في الوزن فضيلتها الشعرية الوحيدة وتغرق في الباروكات
اللغوية. ونصوص النثر التي تقف على الطرف النقيض من هذا الجدل، حين تختصر موضوع
الشعرية، أحياناً، في التخلي عن الوزن أوالإيقاع، دون أن يكون لكاتبها وعي بشروط
هذه القصيدة، وجمالياتها، وثقافتها، أوما يجعلها شعراً.
هناك فوضى خلاقة في قصيدة النثر، حتى تبدو ، لمن
يرى نماذجها المتواضعة، وكأن هناك ديمقراطية شعرية الى أبعد الحدود بالمعنى السلبيّ
للكلمة. فهي تكاد تغدو متاحة للجميع، ولا تستدعي موهبة من أحد .
وربما ساهمت في هذا الخلل أكداس من المجاملات النقدية التي تختلق الفتوحات والمعجزات، للكثير من نصوص النثر وبسخاء مبالغ فيه ربما، حتى نسينا أن هذه القصيدة، حين يكتبها شاعر موهوب، قول شعريّ بالغ الجمال والصعوبة أيضا، كما عرفناها ونعرفها لدى شعرائها المميزين.ً.
-ما دوافع هذه المحاباة أوالمجاملات النقدية على حد وصفك؟
يظهر أن بعض النقاد قد نفضوا أيديهم من قصيدة
التفعيلة، منذ فترة ، ونقلوا ترسانتهم النقدية الى جبهة النثر، بدوافع قد لا تكون
جميعها لوجه الشعر. وكأنهم أدركوا أن المحسوبين على جبهة النثر، لا كتابها المرموقين،
يشكلون "مافيات قصيدة النثر" بتعبير الراحل محمود درويش. من خلال
سلوكيات نقابية ضيقة، وهيمنة شللية على منابر النشر وتنظيم المهرجانات الشعرية .
فلكي يبقى هؤلاء النقاد في دائرة الضوء وعلى قيد الكتابة لفترة أطول، لا بد من
المحاباة ، التي يترتب عليها ، أحياناً ، النظر الى المشهد الشعريّ بعينين شبه
مغمضتين
____________________________________ .
نشرت جريدة أخبار الأدب هذا الحوار، في عددها الصادر اليوم 16 -2-2020
إرسال تعليق