شكيب كاظم
هذا شاعر أُعْجِبتُ به، منذ ان تعرفت على أولى قصائده، منتصف الستينيات، هذا لا يعني أنه بدأ كتابة الشعر المنثور في ذلك الوقت، بل هو كتبه أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، منذ ان اُجبروا على ترك ديار الأهل ومغادرتها.
وازددت به إعجاباً، يوم أنتج كتابه السِيَري المهم «أضواء جديدة على جبران» طبعته ونشرته الدار الشرقية للطباعة والنشر، بيروت في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1966، والذي امضى وقتا طويلاً، في قراءة الرسائل المتبادلة بين جبران والأمرأة الأمريكية التي تعهدته بالعناية والرعاية، ماري هاسكل، التي أهدى جبران اكثر من كتاب من كتبه إليها، وكان يرمز إليها بالحروف M.E.H، ففي إهدائه لروايته الرائدة الجميلة «الأجنحة المتكسرة»، الذي جاء على هذه الصيغة (إلى التي تحدق إلى الشمس بأجفان جامدة، وتقبض على النار بأصابع غير مرتعشة، وتسمع نغمة الروح الكلي من وراء ضجيج العميان وصراخهم، إلى M.E.H أرفع هذا الكتاب. جبران). ولنتوقف ملياً عند عبارة (أرفع) إنه اعتراف بفضلها المادي والمعنوي عليه. في حين يأتي إهداؤه لها كتابه «دمعة وابتسامة» هكذا: إلى M.E.H أقدم هذا الكتاب، وهو أول نسمة من عاصفة حياتي، إلى الروح النبيلة التي تحب النسمات وتسير مع العواطف. جبران.
لم يدرس الشاعر توفيق صايغ (1923-1971) الرسائل، وينشر مقتطفات منها، بل غاص في خفايا النصوص، ليطلع على الكثير من المخفي في حياة جبران، والمسكوت عنه من نوازعه وأهوائه وتقلباته ومبالغاته، إن لم أقل اكاذيبه، فضلاً عن موقفه من المرأة جسداً، لا روحاً، لذا أطلق قولته أو صرخته: لا أريد نساءً في حياتي! في وجه العديد من النساء ممن كن يحمن حوله في بوسطن أو باريس، حيث ذهب لدراسة الفن، أو في نيويورك. لكنه ظل يرتبط برباط روحي غير جسدي، وكيف يكون جسدياً وألوف الأميال تفصل بينهما: جبران وماري إلياس زخور زيادة، فاكتفى بالرسائل المتبادلة وشيجةً روحيةً بينهما، ولعل هذا العجز عن التفاعل الجسدي مع مي زيادة، هو الذي سبب لها تلك الأزمة النفسية والعقلية، التي دخلت على أثرها، أو أدْخلتْ عنوةً إلى مستشفى العصفورية، مستشفى الأمراض العقلية في بيروت بداية الأربعينيات، وأدت بها – بعد تحسن لبعض الوقت- إلى تلك الميتة المأساوية في التاسع عشر من شهر أكتوبر 1941.
هذا شاعر تعاطفت ُمعه تعاطفاً كبيراً، وهو يكتب شعراً يقطر ألماً وأنيناً، وينضح شوقاً إلى الديار التي اقتلع منها، وترك شأنه، شأن مئات الالوف من الفلسطينيين، يواجه المصير المظلم المعتم في الشتات، وظل يناغي أرض الآباء والأجداد. لقد ترك الاقتلاع الصهيوني لهم عام 1948، ظلالاً قاتمة على حياته ونتاجه الإبداعي الشعري، وكان سبباً في القتامة التي لفت حياته، وحتى العاطفي منها، فهو لم يستسغ الحياة، بعد الاقتلاع، لذا فإنه لم يوفق حتى في حياته العاطفية مع تلك الفتاة الإنكليزية التي تعرف عليها عام 1957، يتيمة الأبوين من كامبريدج، وكانت تعيش في لندن، وارتبط بها بعلاقة جسدية وانجبت منه طفلة، ما لبثت ـ بعد انفصالهما – أن أودعتها في ميتم فآلمه ذلك كثيراً، إذ مَنْ من الناس يحتمل إيداع طفلته في مبرة أو ميتم وهو على قيد الحياة؟!
هذه الامرأة التي شاء توفيق صايغ، أن لا يُعَرّفها لقراء شعره، بل أطلق عليها حرفاً هو (K) (ك) وكتب فيها قصيدته الموسومة بـ(القصيدة ك) عام 1960، فضلاً عن نصوص من قصيدته الطويلة التي سماها (معلقة توفيق صايغ) الصادرة عام 1963.
توفيق صايغ متكتم في علاقاته فهو يهدي كتابه «أضواء جديدة على جبران» إلى د.ج. لأني لم أقدم لها شعراً. ليس لي الآن فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فأياه أُعطي.
ولأنه لم يعرفنا على اسم تلك الفتاة الإنكليزية التي رمز لها بالحرف (K) فأصبح من المسلَّم به أن لا نعرف اسم تلك الفتاة التي زاملته في الجامعة الأمريكية، ويبدو أنها فتاة عربية، التي تذكر له في إحدى رسائلها اليه: (حبنا سيبقى حباً لم ولن يعرفه البشر، حبنا سماوي، بعيداً عن شرور المادة وآثامها). لكنها تفصح عن جرأة واندفاع في رسالة ثانية: (إنك رجل ولجسدك متطلبات غير متطلبات المرأة، بحاجة الى تفريغ اعلم كل ذلك. أتعتقد اني كنت اضن عليك بهذا الشيء لو كان باستطاعتي ذلك؟ إنني محاطة بوحوش كاسرة من أبناء عمي يعيشون على النظام الإقطاعي لا يتورعون عن شيء».
ويصف جبرا إبراهيم جبرا العلاقة بين توفيق صايغ والفتاة (K) في كتابه «النار والجوهر» كما يقتبس الباحث عباس اليوسفي: كانت كاي تغويه وتعذبه معاً، وتتقن كلا الفنين وتتمتع بهما. ما رأيته في لندن في أواخر الخمسينيات، إلا وهو في تباريح غريبة من هذه الفتاة، وهي فنانة تقيم في لندن. تتشبث به وتغار عليه، وتعقد عليه لذة الحب بلذائذ قسوتها السادية، لا يستطيع منها فكاكاً، تغار عليه حتى من أصدقائه، فلا تريده أن يراهم، ولا تريد هي أن تراهم، أسماء صحبه لديها تعاويذ شريرة، يأتيني منهكاً شاحب الوجه، محروم النوم، مهووساً برعب هذا الحب اللذيذ المرير».
توفيق صايغ متكتم في علاقاته فهو يهدي كتابه «أضواء جديدة على جبران» إلى د.ج. لأني لم أقدم لها شعراً. ليس لي الآن فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فأياه أُعطي.
هو شاعر، أحزنني كثيراً مصيره المأساوي، كلنا سنواجه موتنا، لكن توفيق صايغ واجه موته بصورة قد لا تخطر على بال، مع أن الموت لا يعرف بالاً ولا غير بال، فهو بسبب حياته العاطفية والمأساوية، بعد أن فقد الأرض والوطن، ظل يجوب الآفاق والدنيا، فعمل في جامعات بريطانية والولايات المتحدة، ففي مدينة نيويورك المعروفة بناطحات سحابها، كان زائر الموت يتربص متخفياً في أحد المصاعد، لقد فارق توفيق صايغ الحياة في مصعد من مصاعد إحدى عماراتها. ترى هل هناك ميتة مثل هذه الميتة؟
هناك الكثير من الناس من يأتيهم المجد وذيوع الذكر والاسم، في حين هناك من يبخل الزمان عليهم بجزء من ما نعم به مجايلوهم وزملاؤهم، وأنا أعزو هذا إلى الحظ وزوايا البرج الذي يعيش الفرد في كنفه وخلو المسار، ساعة الولادة ودق رأس الوليد للأرض، أي الزمان والمكان، والويل لمن دق رأسه الأرض عند المولد، والدنيا يشع عليها كوكب المريخ ويطل، فسيحيا معذبا مهموما، تفوته الفرص، ويسبقه ويتقدم عليه أناس كان شوطهم وراء خطواته، إذ يمشي على مَهَلِ كما قال الطغرائي، في لاميته الرائعة، ولعل توفيق صايغ من هذا النوع البشري، فهو لم يحظ باهتمام النقد والنقاد، في حين حظي زملاؤه: أدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال وفؤاد رفقه ونذير العظمة ومحمد الماغوط وخالدة سعيد، وإلى حد ما شوقي أبو شقرا وعصام محفوظ، وأنطوان غطاس كرم من شعراء قصيدة النثر بذيوع الذكر وبقاء الأثر، في حين صَدَف عنه الدارسون.
كما أن المجلة المهمة التي أصدرها «حوار» واجهت التهم، ونحن مولعون بإطلاق التهم من دون تثبت، شأنها شأن مجلة «شعر» التي أصدرها يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس، لم تستمر «حوار» التي كنت أحصل على أعداد متفرقة منها (1962-1967) إذ ما لبثت أن توقفت بعد كارثة الخامس من يونيو/حزيران1967، وكذلك توقفت مجلة «شعر» الرائعة 1964، لذا تفاعلت كثيرا مع هذا الجهد الذي بذله الأديب الباحث عباس اليوسفي وهو يدرس شعر توفيق صايغ دراسة فنية رائدة، وأنا أراها رائدة في الدرس، دراسة شعره فنيا، فعدا شذرات ومقالات قليلة كتبها الأديب الفلسطيني الذي أمضى جُلَّ عمره في العراق، لكنه أساء للعراق كثيرا في أكثر من رواية – وقد أعود لهذا الموضوع يوما ـ جبرا إبراهيم جبرا والأديب والناشر رياض نجيب الريس والكاتبة سلمى الخضرا الجيوسي وعيسى بلاطة والشاعر خليل الخوري، والأديبة أرواد طربية، وشذرات متفرقة، ذاكرة له ومنوهة به من لدن شكيب كاظم، فليست هناك دراسة معمقة، تناولت أدبه وشعره وترجماته، ويبقى نثره الشعري أو شعره النثري، هو المعول عليه في دراسته، لذا جاءت هذه الدراسة الأكاديمية التي جاد بها الباحث العراقي عباس اليوسفي لتعيد حقا ظل مغموطا لهذا الشاعر مرهف الحس. كما أنها محاولة جادة لاعادة توفيق صايغ لاخذ موقعه في حركة القصيدة النثرية وليكون في الواجهة منها. لي أكثر من ملاحظة على هذا العمل الأكاديمي الجاد:
قال الباحث عباس اليوسفي: «ومن إسهاماته النقدية المهمة، كتابه النقدي المشهور «أضواء جديدة على أدب جبران» عام 1966 الذي بناه على (7000) صفحة من الرسائل التي تبادلها جبران خليل جبران مع الأمريكية ماري هاسكل ومن مذكرات هاسكل مدة 23 سنة».
اقول: لم يرد اسم الكتاب على الوجه الصحيح فصحة اسمه هو «أضواء جديدة على جبران» كما أنه ليس كتابا نقديا، بل هو كتاب في أدب الرسائل التي تنهل من السيرة الذاتية لجبران وماري هاسكل وتقترب منها، والكتاب حزمة ضوء على المخفي من حياة جبران، خاصة في المجال العاطفي وعلاقته بالمرأة، وأنه لم يكن يملك ما يشبع الرجل به المرأة جنسيا، إذ خَلَتْ حياته من اي ذكر لهذه العلاقة، وأذكر ماقاله يوسف الحويك في كتابه «ذكرياتي مع جبران» الصادر في بيروت يصوره طوال إقامته في باريس وهو في عنفوان شبابه، متزنا منسجما مترويا في علاقته بالمرأة، ايعقل هذا من شاب في ذروة شبابه، وفي باريس؟ إن لم يكن معطوبا جنسيا وعاجزا، كما أن جميل جبر الذي اختص بدراسة مي زيادة وجبران كذلك، يذكر نقلا عن يوسف الحويك أن أحد الموديلات التي كان يستأجرها الحويك وجبران معا لغرض الرسم كانت (تثور غالبا على برودة جبران العاطفية نحوها فتردد في إذن الحويك: ان صاحبك لعاجز لا خير فيه).
كما أنه في إحدى رسائله لماري سنة 1909 يقول لها: إنه يهرب هربا من كافة الاشياء التي يجد الرجال والنساء لذة فيها، وإنه متعب من كل الأكاذيب الخارقة التي يسميها الناس لذّات. كما أنه يؤكد براءته الجنسية ويفسرها في رسالة كتبها عام 1922 يقول: عندما تقوم علاقة جنسية فإن حرية ما تضيع، هذا سبب من الأسباب التي تجعلني بدون أي علاقة جنسية مع امرأة ما وتجعل من المحتمل أني لن أخوض مثل هذه العلاقة في المستقبل».
أما قضية السبعة آلاف صفحة من الرسائل التي ذكرها الباحث اليوسفي فأود – للدقة ـ توضيح أمرها راجعا إلى ما ذكره توفيق صايغ في كتابه آنف الذكر، الذي يقول: «إن الرسائل أكثر عددا مما خيل إليّ فهي تضم 325 رسالة من جبران إلى ماري هاسكل وزهاء 300 رسالة من ماري هاسكل إلى جبران وجدتها ماري بين أوراقه في محترفه بعد وفاته، وتتراوح في تأريخها ما بين 1908 و1931 لكن مفاجأة أخرى كانت تنتظرني، فقد ذكر لي القيم على المكتبة (أي مكتبة جامعة نورث كارولينا) أن هذه الرسائل إنما هي جزء من الأوراق في حيازته لا كلها، وإن ماري هاسكل أودعت عام 1953 في المكتبة، إلى جانب هذه الرسائل كميات هائلة من الأوراق والمخطوطات، والوثائق المتعلقة بحياتها، ولعل أهم ما في هذه الأوراق هو مذكرات ماري ويومياتها وصور فوتوغرافية، وقصاصات وصور فوتوغرافية لميشلين ومراسلات مع مريانا (شقيقة جبران) ومع بربارة يونغ مؤلفة كتاب «هذا الرجل من لبنان» ومع شارلوت تلر التي كانت صديقة لماري وجبران مادة ضخمة، على أن أقرأها وأدرسها وأقارن بينها وأقدمها، لم يكن في الواقع ينقص إلا صفحات معدودات عن السبعة آلاف صفحة».
كما وجدت الباحث عباس اليوسفي في ثبت المصادر والمراجع ينسب إلى دار ألواح/ بيروت
نشرها كتاب «أضواء جديدة على أدب جبران» والدقة تقتضي منا أن ننص على الاسم الصحيح
للكتاب «أضواء جديدة على جبران» طبعته ونشرته الدار الشرقية للطباعة والنشر ـ
بيروت ـ لبنان في أكتوبر عام 1966 بالاتفاق مع مجلة «حوار» وليست دار ألواح.
٭ كاتب عراقي
* المصدر القدس العربي
إرسال تعليق