د. سلطان الخضور
في ديوانه الأخير الصادر عن مكتبة الطلبة الجامعية في اربد -الأردن، والذي حمل عنوان "قلق أنا " يظهر الشاعر الأردني عبدالرحيم الجداية قلقاً، ويَظهر القلق واضحاً في كثير من القصائد التي وردت في الديوان والتي كثيراً ما لازمته في قصائده الموزعة على مئتين واثنتين وثمانين صفحة من القطع المتوسط، فالقلق بادٍ على محيّا القصائد البالغة أربعون قصيدة، ويتكرر مشهد القلق الذي لا يجد الشاعر مناصاً من التعبير عنه في كثير من المواقف، إلا أنني وجدته متأزماً لينفجر في جسد القصيدة التي حملت عنوان " عابر إلى فلسطين" ، فيصور لنا الشاعر مشاهد القلق المتكررة يومياً في ذات المكان، والتي تصيب الآلاف من العابرين والعائدين بشكل بات سمة بارزة لكل الوجوه، وعلى كل المساحات.
في مشهد بائس، يائس على المعبر، كل العابرين متهمون، الباص الذي ينقلهم متهم، والحقائب التي أسلموها ملابسهم وحاجاتهم وأغذيتهم متهمة، كل أشيائهم متهمة. هناك على نقطة العبور عليك أن تنتظر ساعات وساعات في حافلة مغلقة، أي حركة من أحد ركابها تثير الشبهة، في حالة من القلق المتواصل الذي يصل لدرجة القلق الذي تحدثه أعواد المشانق لمن ينتظر التفاف حبلها على رقبته، انتظار لحقيبة بريئة لكنها متهمة، قد لا تأتي وإن أن أتت تأتي منهكة من أثر العبث، في حالة لم تعد مألوفة إلا هناك،
يقول الشاعر الجداية:
" ...والباص ينتظر المسافر/
والمسافر في انتظار حقيبة/
خلف الكواليس القديمة/
والفتى قلق كأعواد المشانق".
ويشير الجداية أن هذا الموقف يسبب ارباكاً حتى للباص الذي يلتف حوله الجنود مما يجعله مصدر قلق، والجند متأهبون في حالة من الفوضى والعابرون مجردون حتى من أحذيتهم، لأن أحذيتهم مشبوهة أيضاً رغم أنهم عائدون إلى أرضهم وكأنهم في عودتهم يطاولون في قرارة أنفسهم عنان السماء ويأملون بالارتقاء إلى الشمس.
ومن الطبيعي أن يتسرب القلق إلى نفس الشاعر حين يذكر
القدس والبرتقال والبحر وما تسبّبه هذه المشاهد من ألم وحزن ودموع.
ويوغل الجداية في التاريخ
حين يذكر البشارة ككنيسة شيدت في مدينة الناصرة، تعود في بنائها إلى زمن
البيزنطينيين ويجيد الربط بينها وبين الأقصى، في إشارة إلى وحدة الأرض، فقد جمع
هنا بين حيفا التي تتهادى على البحر وبين القدس وكنيسة البشارة ووزع القلق على كل
هذه الأرجاء. كل هذه المشاهد والباص الحزين ما زال قلق ينتظر على الدور لعله يعبر
إلى هناك، إلى فلسطين.
يقول الشاعر الجداية:
" ...يا قدس تحملك البشارة...
والبرتقال على يديها غارق بالحلم أو بالحزن...
هل تعشقين البرتقال/
يافا تحدثني
وينسجني المقال...
برقِّة الحلم
في فضاء الفجر تنبثق الرسالة
والباص يحفظ دوره في حزنه."
ويستمر المشهد القلق عندما
تنسحب الذكريات من الجغرافيا والتاريخ والزراعة والدين لنجد عصارتها مرة أخرى
تتركز في الباص الذي ما زال على ذمة القلق والحزن والانتظار وصورة لطفل عاشق للأرض
وأخرى لطفل عابر ونساء من ذاك الوطن الجريح وخلف الباص مدفع يثير القلق والخوف
يقول الجداية:
" خلف الباص طفل عاشقٌ/
وهناك طفل عابر ٌ/
وعلى الطريق نساءٌ من وطني الجريح/
وهناك خلفك مدفعٌ ومسافر.
ويستمر مشهد القلق في ذات القصيدة، عندما يذكّرنا الشاعر بهزائمنا التي لم تعد تحصى والتي كان من المفترض أن نهزمها وندفنها وننفض الغبار عنا ونستفيق لكنها حبست انفاسنا وبات الموت سيداً لمشهد القلق وما زلنا نلهث خلف باص منهك مرهق سيقودنا إلى سجن كبير وكأنه بات مشهد مألوف، وفي هذا السباق نبرز من القصيدة ما يلي:
"... ما عدت أحصيها الهزائم/
إنها خلقت لنهزمها،
ولدت لندفنها/
لكنها رصدت لنا الأنفاس في أفواهنا /
والموت قافلة على أبوابنا/
فلنلحق الباص المسافر يا صبيّ...
واصل لهاثك خلف باص متعبٍ اعبر.
لكنّا نجد عند الشاعر بوابة للأمل انتزعها من مشاهد القلق
فهو في النهاية يدعو للتخلص من السجن وكسر القيود والعيش بشموخ الحمام المحلق الذي
يتنقل بين السفوح، عليه التحليق حتى ولو كان ذلك بجناح مكسور ، فالنصر لا يكون إلا
بصرخة مدويّة في وجه من أَسَرَ لأنه يفترض أن يكون هو الأسير
"...اخلع قيودك خلف باص عابر
واجعل خطاك الريح
كي تجد الحياة...
فلا تكن غير الحمام،
تطير من سفحٍ إلى سفحٍ/
ولو كسروا جناحك والمصير /
فاطلق لهم صرخات قلبك
وانتصر.... .
مشاهد قلق حزينة عكستها شخصية الشاعر الجداية، تلك الشخصية التي استطاعت أن تصنع منها مركبة للأمل قد تنطلق ذات يوم
إرسال تعليق