-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

مكامن الحكمة في ديوان خزائن الحكمة للنمري



دراسة في النقد النفسي

د.سلطان الخضور
د. سلطان الخضور

وحيث أن شاعرنا سليم النمري قد أبدر عليه القمر ما ناف عن ألف من الأبدار، حيث طلع عليه بدره الأول عام 1927.  ولو كان في كل بدر حكمة, لتحول القلب قبل العقل إلى مخزن لها، ولو اختزن في كل يوم حكمة واحدة على الأقل لكان عدد الحكم يتجاوز الثلاثين ألفاً، أضف إلى ذلك ما اكتنزه من الحكمة والعلم عن طريق ما تحصل عليه من شهادات وما أمضاه بالبحث والدراسة حتى تحصل على شهادة الدكتوراه، إضافة إلى خبراته الحياتية المتراكمة ما جعله كنزا من كنوز الحكمة والخبرة.

وما زاد الحكمة حكمة، رغبة الشاعر في إخراجها من صدره حتى لا تبقى تعتمل فيه ولينتفع بها الناس، وما زادها شأناً على شأن خروجها شعراً، مفعلة وذات جرس موسيقي لتستمتع الأذن حين تتلقاها أو تتلقى منها بعضا.

كل ما ذكر مكّن الدكتور سليم النمري من بناء بيت الحكمة الذي شيده بهدوء وعلى مر الزمان والذي حفر أساساته في مدينة الحصن وسقى هذه الأساسات -أساسات بيت الحكمة- من ماء إربد وهو في المرحلة الثانوية وقد استورد بعضاً من مستلزماته من جامعة دمشق التي نال منها درجة البكالوريوس، وساعده وجوده في ضريبة الدخل والجوازات العامة بعمان في عملية التصميم، وأصر على أن يرفع أعمدة بيت الحكمة بخلطة من الولايات المتحدة وسَقَفَهُ مما استقاه من هناك مستنداً على ما اكتسبه من اللاهوت والأديان والعلوم الروحية، فكان له ما أراد وأكمل البيت واستقر له الأمر، فتعايش مع الشعر وبسبب زحمة الأفكار ولأن أمر الحكمة أمر متجدد ولأن أهل الحكمة يعطون أكثر مما يأخذون، فكان لا بد من فتح الباب على مصراعه لتخرج الحكمة على شكل أبيات منسقة متوازنة متوازية مقفاة مفعلة مسلحة بما اكتنز صاحبها من اللسانيات ليستفيد منها الآخرون.

ولما أكمل شاعرنا بيت الحكمة قام بزراعة حديقته الغناء التي نتجول بين غراسها اليوم والتي كان قد غرس فيها ما يريح النفس والروح.

وقد أصاب شاعرنا حين انتقى الخزنة-خزنة البتراء -لتزين الواجهة الأمامية لديوانه الممهور بخزائن الحكمة، جاء ذلك ليؤكد بعده الوطني والقومي, فهو يعبر باستمرار عن حبه العميق لوطنه الأردن والتأكيد على عمقه القومي .فمملكة الانباط كما نعلم مملكةعربية قديمة,كانت عاصمتها مدينة البتراء الأرنية, فقدقامت مملكة الأنباطفي صحراء النقب وسيناء والأردن وأجزاء من شمال شبه الجزيرة العربية وكانت محطة استراتيجية, لأنها تقع على مفترق طرق القوافل القادمة من اليمن وتربطها بالشام ومصر والبحر الأبيض المتوسط ومن هنا ينعكس البعد القومي في ذهنية الشاعر.

والأنباط عرب ولغتهم اللغة الآراميّة وهي لغة سامية شرقية-أوسطية، انطلقت مع قيام الحضارة الآرامية في وسط سوريا وكانت لغة رسمية في بعض دول العالم القديم ولغة الحياة في الهلال الخصيب كما أن الآرامية تعد لغة مقدسة, فآرامية الجليل التي استخدمها الأنباط في القرن الخامس عشر هي لغة السيدالمسيح عليه السلام, ما أعطى للديوان بعداً دينياً حرص الشاعر على تأكيده.

والبتراء العاصمة هي مدينة كاملة منحوتة في الصخر الوردي اللون (ومن هنا جاء اسم بترا وتعني باللغة اليونانية الصخر) والبتراء تعرف أيضا باسم المدينة الوردية نسبة إلى لون الصخور التي شكلت بناءها، وهي مدينة أشبه ما تكون بالقلعة تم اختيارها في السابع من تموز لعام الفين وسبعة كواحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة, وهذا أيضاً يعكس من جديد حب الشاعر لوطنهً.

والدرس الثاني الذي نشتقه من الغلاف هو النحت، فالنحت يحتاج إلى جهد ذهني وجسدي كبير، بالإضافة لما يمثله من قدرة على الصبر والجلد، مما يدل على رباطة جأش الأنباط، ونستطيع هنا ربط ما ذكرناه مع جلد الشاعر وصبره وقدرته على العطاء رغم أنه مضى عن عمره ما ناف عن التسعين، وهذا لعمري أمر يغبط عليه.

أما البعد الثالث الذي نستنتجه من اختيار البتراء, فهو البعد السياحي فإننا نقرأ في الديوان رغبة الشاعر الذي ما فتئ يؤكد على محبته للأردن وللأردنيين واعتزازه بوطنه وبعروبته فهي الرغبة بتسويق البتراء كمعلم سياحي أردني مهم.

بهذا الرسم  يكون الشاعر قد ربط ما بين الماضي والحاضر من جهة وما بين الوطني والقومي والديني من جهة أخرى.

أما ما كتب من قصائد في ديوان "خزائن الحكمة" فقد زادت عن المئة وعشرين قصيدة كلها كتبت في كليفورنيابامريكا الا اثنتين إحداهن في إربد عروس الشمال في الأردن والأخرى في مدينة مونتري وهي عاصمة ولاية نويفو ليون أكبر مدن شمال شرق المكسيك.

 اتسمت القصائد التي وردت في الديوان بشكل عام بالوجدانيات والحنين والتعبير عن التقدير للأشخاص والأماكن التي استقرت في قلب الشاعر رغبة منه بتوصيل رسائل المحبة للأماكن وللأشخاص حينا آخر, فقد كتب للوطن وكتب في الروحانيات وفي المناسبات وفي العادات وعن الفقراء وفي الرثاء وفي المرأة والشهداء وغير ذلك الكثير, جلها اتسم بالحكمة وإسداء النصيحة.

    ولأن القصائد كثر والمقام لا يتسع لإدراج ما حملته من حكم فقد أخترنا منها خمساً, واحدة من كل خمسين وقصيدة قبلة " للحصن" لأنها تحمل خصوصية معينة لدى الشاعر حيث رأى النور هناك.

فها هو يعنون إحدى قصائده المدونة على صفحة اثنتين وأربعين " أشفاع" والشفع ما شفع غيره وجعله زوجاً وهي خلاف الوتر.

يقول بهذي القصيدة:

الرقم صنفان رقم الشفع والوتر   

والقول ضربان قول الشعر والنثر

والعمر يومان يوم المهد واللحد  

والعيش شتان بين الحلو والمر

والمجد بيتان بيت الخلد والنسر 

والحق صوتان صوت الصمت والجهر

والرأس يقبع بين الذل والفخر

ومسلك المرء بين الفحش والطهر

في الأبيات التي مضت نجد ثنائيات صاغها الشاعر على شكل أشفاع أي أزواج فقد زاوج بين الشفع والوتر وبين الشعر والنثر وبين المهد واللحد وبين الحلو والمر والخلد والنسر والصمت والجهر والذل والفخر  والفحش والطهر, وإنها لعمري ثنائيات مقترنات متضادات تستحق التأمل, وتحمل جلها دلالة أكيد على عمق التفكير والثروة اللغوية التي استطاع توظيفا بشكل رائع ومفيد.

وفي قصيدته المعنونة ب" سنة التطور" غلى صفحة ستة وستينيقول:

لا يصنع المخلوق صنعة خالق        كل تبوأ في الحياة مكانا

عدم التطور والجمود تخلف من  عايش العادات عاش جبانا

من لا يحب النور أغمض عينه ألف الظلام ورافق العميانا

ففيما مضى من أبيات تبرز الحكمة في تعظيم الخالق والدعوة للتقدم والنظرة المستقبلية والابتعاد عن التشبث بالعادات البالية ودعوته إلى التنور وأن من لا يحب النور كمن يعيش في ظلام, أو قل كالأعمى الذي لا يرى بصيص النور, ونرى في ذلك دعوة للتأمل والتفكر والبحث والاستقصاء سعياً للوصول للحقيقة.

وفي قصيدته المعنونة ب" الأم"

الأم أنشودة الدنيا ومن فيها                    وفي سمائها أجواق تغنيها

الأم أقدر خلق الله قاطبة ما           حل في الأرض مخلوق يضاهيها

تحمي الطفولة في حب تقمطها                 وبالمحبة أيدي الله تحميها

من عق أمه عق الله عن عمد               محبة الأم تحكي حب باريها

الفرض وإن طلعت شمس وإن     غربت تقبيل أقدامها من قبل أيديها

وهنا بانت الحكمة في الدعوة للبر ووصف الأم بالأغنية وبأن أهميتها ترتفع عن باقي المخلوقات وأن طاعتها واجبة وعقوقها عقوق لله,  فعلينا أن نقبل قدميها قبل يديها.* بالإضافة لكلمة تقمط فهي من التراث القديم حيث كانت الأم بقطعة من القماش تحزم وتشد يدي ورجلي طفلها فيما كان يعرف بالمقمطة, وفي ذلك توظيف للمفردات التراثية للمحافظة عليها وإعادتها للحياة.

      أما عن الجود والكرم فقد قال في قصيدة جنون الكرم المدونة على صفحة مئة وثمان وسبعين فقد قال:

 لا تدعي كرماً في غير موضعه          إن المظاهر نحييها فتفنينا

يا حارس المال خير المال تنفقه       للسائلين وكي تقضي أمانينا

لا يفقر المرء جود في مواقعه          ولا تظنن أن البخل يغنينا

فهذه دعوة للجود والكرم مشروطة أن يكون الكرم في محله في الوقت المناسب ودون مبالغة أو مباهاة, ما يعكس التصاق الشاعر بالعادات والتقاليد إضافة إلى الخيرة والتجربة التي ينصح الشاعر باتباعها.

      ونخلص إلى القصيدة المعنونة بقبلة " للحصن" وهي المدينة الأحب للشاعر نورد منها أبياتا دون تعليق:

تيهي دلالاً يا مليحة واملأي         كأس المحبة من جراري وانهلي

يا تاج رأسي يا ذؤابة عزتي           يا أوج مجدي يا أرومة موئلي

قد همت لا أدري طريق سعادتي   حتى بدت أنوار حصني تنجلي

قد غبت دهراً لطول ندامتي             أبديت عذراً واهياً فتقبلي

يا حصن أمالي وحرز كرامتي              دللتني فيحق أن تتدللي

وهكذا نكون قد نهلنا ما تيسر لنا من الحكمة  التي تميز بها ديوان شاعرنا" خزائن الحكمة من شاعر فذ أقل ما يقال عنه أنه مثابر وحكيم وإني أرى أنه يستحق أن يطلق عليه الدكتور " سليم الحكيم

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016