لا تختلف المغربية سميرة المهنديز عن غيرها ممن عرفت من شواعر العرب
اللاتي يسكنهن الحس الوطني والقومي، فمنهن من تغنى نصها بالوطن، بأرضه وبجباله
وبواديه، بزيتونه وبلوزه وبحبات الليمون، ومن شواعرنا الملتزمات من تعدت الحالة
الوطنية، ليجيء نصها معبراً عن آلام وآمال شعب من شعوب الوطن العربي الكبير.
ففي نصها الموسوم بغربة وطن نجحت سميرة فؤاد المهنديز في الجمع بين مخاطبتها لأمها
وبين التعبير عن تأففها من الوضع القائم، فقد أسكنت نفسها مكان الشعب الفلسطيني
المعذب بغربته وبعده عن وطنه، لتقول صراحة أنها أصبحت كارهة للزمان الذي تعيش
والمكان الذي تعيش حيث اللجوء والتشرد والهجران وحياة الخيمة التي عاشتها نسبة
كبيرة من هذا الشعب.
وقد افتتحت سميرة نصها ب "أماه" لأنها تدرك أن أمها هي أكثر الناس فهماً
وعلماً ومعرفةً بحاجاتها، فهي التي تدرك عمق الآه وصعوبتها لأنها تخرج من قلبها لا
من فيها.
تقول سميرة في فقرتها الأولى
" غربة وطن
أماه...
ضاق بي المكان...
وكرهت الزمان....
كرهت أعمدة الخيمة
كرهت اللجوء
من مكان إلى مكان"
وتعود سميرة فؤاد المهنديز لتعبر عن ضجرها وهي تخاطب أمها، فها هي تنفث ألفاً من
الآهات حسرة على البعد والفراق حيث أصبحت مرهقة بسب الهجران، وكأن طول الانتظار
يحاول أن ينزلها منزلة اليائس حيث شبهت ما تود الوصول إليه بالسّراب الذي يوهم
الظمآن بالماء وإذا هو بلا شيء. لكن الشوق لديها حالة متدحرجة متجددة فالشوق مربوط
بذكريات لا تمحى على مر الزمان. تلك الذكريات التي تتوق لينابيع المياه، لكروم
الزيتون، لأشجار اللوز وللبيدر، فهي ذكريات كل العاشقين الذين يحفظون قيمة الوطن
وقيمة الأرض ومن عليها وما عليها. ويبدو أن هذا الشوق وهذا الحنين يحرقها ويخرج ما
اعتمل في ذاكرتها من آهات. فها هي تقول في مقطعها الثاني:
"أماه....آه وألف آه
كم أزعجني البعد
كم أرهقني الهجر
ألهث خلف سراب الآهات
يا وطني..اشتقت ثراك
اشتقت لهاتيك النبعات
اشتقت لكرم الزيتون
اشتقت للقمح
للحصاد للبيدر".
وها هي في مقطعها الثالث تخلط بنجاح ما بين الحنين للأهل والعشيرة
وما بين الشوق لهم، وتتخيلهم يذرفون الدموع بسبب الفراق لكنهم يذرفونها بصمت دونما
صراخ وكأن الصمت ينبئ بميلاد جديد يبعث على الأمل، وتجعل من الشوق وسيلة مساعدة
لنسيان الغربة وحصرها بتذكر ما غبر من الزمان ومن مضى من الأهل والخلان
"أشتاق لجدي يروي
الحكايات
أين أهلي ...أين عشيرتي
أين دموعك الحيرى...
بلا أصوات
الشوق ينسيني غربتي
الشوق يذكرني بأحبتي"
وها هي وانا أتخيلها قد مضى عليها حين من الدهر لم تشفع لها السنون
لتخفيف عذاباتها، فيعاودها الحنين كما كان يراودها حين كانت في العشرين من
عمرها،لكنها في هذه المرحلة تشعر بتحطم قلبها وتقر بأن بوادر اليأس الذي وصفته
لكثرته بالتلال، وإن حاولت التسرب إلى ذاكرتها وإلقائها خلف تلك التلال لن تثنيها
عن تحطيم القيد وتحويل حباله إلى وسيلة تتسلق بها برج الأمل وأنهاستبقى زهرة
معطاءة رغم محاولة المحتل غرز انيابه بين ثنايا الأمل لبث روح اليأس وتحطيم شعورها
ووضعها في حفرة لجعلها تستسلم، إلا أنها لن تفعل وستبقى تؤمن بأن الغد
أفضل. تقول:
" ما زال البعد
يؤرقني
كابنة عشرينٍ
قيود البعد تُحطمني
ترميني خلف تلال اليأس
لكني سأحطم أصفاد قيودي....
من بين براثن المحتل
أنياب الغدر تلاحقني
تمزق أحلامي...
تبعثر أوراقي..
تبقيني في حفرة أوهامي
كزهرة منفية"
ولا تمل سميرة حيث في فقرتها الأخيرة تعاود مخاطبة أمها لتؤكد على ما
ذهبت إليه من قبل أنها تذرف الدموع شوقاً وأن الشوق يحرقها ويسبب لها جروحاً غائرة
تنجح حين تعلن أنها مستعدة للتضحية بدمها، وتنجح كذلك بربط الدار واللوز والزعتر
بالقدس درة فلسطين وبوابة العالم إلى السماء، فلعل نداءها ينفذ إلى السماء، وتؤكد
في النهاية على مبدأ الصمود حتى يتحقق النصر وتعود القدس وكل فلسطين إلى حضن أمتها
العربية. فتقول:
"أماه...
دموع البعد تلاحقني
تجرحني ...تحرقني
للقدس دمائي تدفعني
أشتاق لمرابعنا
أشتاق للدار
أشتاق للوز للزعتر
أقسمت بأن أحيا في أرضي
وليحيا بقربي السوسن والغار
لتبقى أرضي عربية
ولتحيا أرضي عربية ."
إرسال تعليق