ينشغل المثقف باستدراج ما تيسّر من موائد التحليلات والكتب التي لا تخرج عن سياق أنها محملة بـ(كيديّات) لا منهجية تفرزها جملة من الضغوطات النفسية التي يعاني منها المثقف في عصرنا الحالي، حيث يبادر إلى طرح ما استــقاه من هذه الموائد من دون إعادة قراءة واعية لأهدافها، بل يتعداه إلى تحصينها بـ(قناعة) لا تخرج عن السياق نفسه، عَلِمَ ذلك أم لم يعلم، أراد استنطاقها وإحالتها إلى واقع غريب متشظ، أم أراد منها التهويل والتفخيم لغاية في نفسه.
المتابع لغرف مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، ـ وأستبعد الصحف الرسمية، لأنها ذات سقف محاط بجملة من القوانين الناظمة لمفرداته الضيّقة، ـ يرى أنّ المثل الشعبي «حيص بيص» قد فعل فعلته في أروقتها، فلا يخرج المرء من هذه الكيديّات إلا وقد نفخ على رماد الحريق الذي أطفأ أواره ذات طمأنينة، فجملة ما تقرأ لا يقدم للفكر العربي سوى أمراض كان من الأجدر أن يتجاوزها المثقف كونه حامل راية التنوير.
إنّ التنويري وفي أبهى قراءاته الاستباقية يجب أن يكون على طرفٍ واحد من المعلومات التي تضخّ كل ثانية في هذا العالم، لا أن ينحاز انحيازا أعمى إلى شَرَك التحليلات، حتى لو أخذت منه مكاناً في القلب والوجدان، ليكون منصفاً أو قارئاً ذا بصيرة.
أحاول كثيراً أن أفهم العتبة التي يقف عليها هذا التنويري، أو الذي يتجلبب بهذه الصفة، فهو غير واقعي في طروحاته، وفي هجومه على كل وسائد التراث، فكيف لنا أن نؤمن بمقولاته وهو يكيل بمكيالين، فالأمر إذا ما تعلّق بالخروج على المعتقد تراه يشحذ سكينه، ويركب ناقته، ويفرد عضلاته، وإذ ما جوبه بتورط العصر في قضايا تمس كرامة الإنسان، انبرى مدافعاً عن هذا التورط، وأشير هنا إلى الحروب التي افتعلتها أمريكا وغيرها تجاه المشرق العربي وغيره، وكم من الأنفس أزهقت جرّاءها.
المثقف إذن بين حالين تفرزهما آمالُه، الآمال التي أصبحت برسم البيع، فلا هو قادر على أن يتخطّى مسألة الصنمية في ذاته، ولا هو قادر على إحياء عقله، فتراه يثور إن تعلّق الأمر بمكتسباته الضيقة، ويبدأ بقذف العقل إن هو تجرأ على أن يضع أمامه صخرة التأني، ويتهم الذات بالتقصير إن هي أخلّت بشروط المواجهة، فاللعبة يريدها كما توسوس له بها نفسه، لا كما يرى أبجديتها التي تُحفر في عين الحقيقة، لهذا هو خارج نطاق الممكن، ورأيي قابل للخطأ ورأي غيري قابل للصواب، هكذا لا يريد إلا اتجاها واحداً ولو كان في نهايته جحيم الصدمات، إنه مسكون بالأنا، الأنا التي تقرّر نيابة عن كل ما يمكن للعقل تحليله.
انتقاد
التراث شيء قابل للمحاولة، وتخطّئة من اشتغلوا عليه أمر يمكن قبوله، ومحاولة
قراءته بعين حيادية أمر تستجيب له مكونات الفكر، ولكن أن تشطبه بجرّة قلم لأنه لم
يوافق هواك، فهذا أمر يدفعك إلى جهة التشكيك، جهة النوايا غير الحسنة، جهة الخلفية
التي تحرّك حدتك غير الواقعية، وهذا أيضا يتسق مع الصورة الأخرى، أن تردم المعاصرة
أمر غير مستغرب، وأن تشكك بمن اشتغل على منازلها أمر قابل للنقاش، ولكن أن تشطبه
لأنه لم يوافق ما أنت عليه فهذا أمر يدفعك إلى التخلّف والبقاء في دائرة التصنيم
غير المبرر.
لست
هنا بصـــدد تركيـــب جمل ذات أبعاد فلسفية، أو إفراغ شحنات غضب، أو تقزيم ما
يتناوله المثقف، أو إنكار توجهاته التي تخالف سنن ارتباط العقل بالمنجز، ولكن
أحاول أن أرصد المبتغى من وراء ما يقدمه المثقف العربي إزاء التطورات الهائلة
والتحولات الكبيرة التي تشهدها منطقتنا العربية التي اعتادت على نسخ المصطلح
الغربي وفق بنيته وهويته، وليس وفقا لما ينجزه هذا المصطلح على صعيد التطور
والتحوّل.
في مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض المواقع الإخبارية تصدمك هشاشة الحجّة التي يتقنع بها المثقف، فالمثقف لا يرعوي أن يهاجم مرتكزات أساسية قامت عليها الهوية والبنية، وحجته في ذلك، بعض ما يرتكبه أشخاص يمتون للهوية بصلة، رغم أنّ هذا أمر شائع في جميع الهويات التي تعيش على وجه البسيطة، ولكنه يغفل عن كل الهويات، ويشحذ سكينه في وجه هويته، بحجة الدفاع عنها، والوصول إلى مائدة تستريح عليها الهويات الأخرى، وحينما تحاول أن توجهه إلى ثغرات تلك الهويات، أو هويات بعينها تشكّل خطرا على المنظومة الإنسانية، فإنه لا يرعوي أن يضعك في خانة الظلاميين.
على المثقف أن يدافع عن جماليات هويته، بالرجوع إلى الأسس التي قامت عليها، وأن يرهن قلمه للوصول إلى تنوير الحالة الفعلية التي تقوم عليها الهوية، وتهذيب ما شذّ عن مفرداتها، ومحاولة معالجة الثغرات إن وجدت، لا أن يشطب الهوية لأنه دُفع إلى ذلك دفعاً، مصلحة أو تأثراً بخطأ تطبيق المصطلح، أو لغاية في نفسه الضيّقة التي تسعى إلى إعلاء شأن «الأنا» الرابضة بصخرتها على حرية العقل وقدراته التي تميز بين المعقول واللامعقول.
قبل
أيام وفي حوار على الخاص مع أحد المثقفين التنويريين، كما يزعم، لم نصل إلى أبجدية
الحوار الأولى، ما أقوله قابل للخطأ وقابل للصواب، والعكس صحيح، لأنه تمركز حول
قضية الصواب المطلق التي بنت لها أعشاشاً كثيرة، وعشّشتْ حتى غدتْ من مكوناته
الجينية، قلتُ له: لكل بيتٍ مجرى، وعلينا أن نغلق المجرى لا أن نهدم البيت، ولكنه
أصر على أن إغلاق المجرى لا يمكن له أن يتمّ إلا بهدم البيت، قلت له: دعنا نقتبس
نقطة الضوء من كتلة الظلام ونعممها لعلها تضيء هذه المساحات الملوثة، ولكنه أصر
على أن سحق الظلام أهمّ من بقاء نقطة ضوء ملوّثة على حد تعبيره، قلت له، وقلت له،
ولكنني اكتشفت أن لا أرضية للحوار، الأرضية التي يجب أن يقف عليها المتحاورون،
دونها لن يصل المرء للنتائج، فلكل معطى مخرجات، ولا تكون المخرجات فاعلة بدون معطى
حقيقي يقف على أرضية مرنة
إرسال تعليق