-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

ديوان عنترة بن شدّاد: دراسة تحقيقيّة أدبيّة تاريخيّة جديدة


ديوان عنترة بن شدّاد: 

دراسة تحقيقيّة أدبيّة تاريخيّة جديدة


بلال الأرفه لي

بعد جهدٍ استمرّ سبعة أعوام، وبعد معاينة أكثر من عشرين مخطوطًا، خلص جيمس مونتغمري، أستاذ الأدب العربي وشاغل كرسي ثوماس آدمز في جامعة كامبردج وأحد ألمع الباحثين والمترجمين في حقل الدراسات العربيّة، خلص إلى أن شعر عنترة بن شدّاد قد وصلنا عبر قناتين اثنتين: الأولى مجموعة تتضمّن 27 قصيدة، والثانية مجموعة تتضمّن 40 قصيدة. مجموعة القصائد الأولى مرتبطة بالأصمعي وقد وصلتنا عن طريق تلميذه السجستاني، وهي المجموعة التي اتّخذها الشنتمري متنًا في شرحه لشعر الشعراء الستّة. وفي المقابل اعتمد البطليوسي مجموعة القصائد الـ40 والتي لا يُعرف منشأ روايتها على وجه التحديد.


إنّ خلاصة كهذه حثّت الباحث على إعادة النظر في تحقيق ديوان الشاعر الجاهلي المشهور، على رغم أن ديوانه قد حظي بعدد من التحقيقات النقديّة العلميّة الدقيقة. أهمّ هذه التحقيقات تحقيق وليام أَلْوارد ضمن كتاب العقد الثمين في دواوين الشعراء الستة الجاهليين المنشور عام 1870، وتحقيق محمّد سعيد المولوي الذي أعدّه في الأصل مع دراسة كرسالة ماجستير ونشره المكتب الإسلاميّ عام 1964، وقد اعتمد هذان المحقّقان عددا كبيرا من المخطوطات وضبطا النصّ وعلّقا عليه، وهناك أكثر من عشرة تحقيقات لهذا الديوان أغلبها مقبول ومرفق بشروح، بدءًا بأَلْوارد ووصولًا إلى تحقيق ناصيف سليمان عواد ولطفي التومي لشرح الأشعار الستّة الجاهليّة للبطليوسي، والذي نُشر ضمن النشرات الإسلاميّة في المعهد الألماني في بيروت. اعتمد هؤلاء المحقّقين منهج مقابلة المخطوطات ومعارضتها وصولًا إلى نصّ هجين أو مولّد يُفترض أنّه أقرب إلى نصّ الشاعر الأصلي أو نصّ الأصمعي، وهو منهج شاع بين محقّقي التراث العربيّ في النصف الثاني من القرن العشرين. فنرى مثلًا أن محقّقي شعر الشعراء الستّة يعيدون ترتيب ورود الشعراء والقصائد والأبيات توليفًا وتلفيقًا بين المخطوطات والروايات. ولا غبار على هذا المنهج أن أراد المرء التمتّع بشعر عنترة أو حتّى دراسته، وقد يكون نصّ الأصمعي نفسه، كما يشير مونتغمري، نصًّا مولّدًا كونه وصلنا عن طريق تلامذته، وكثير من مخطوطات الديوان فيما وصلنا تتضمّن مقابلة على الأصل المنسوخ عنه أو على مخطوطات أخرى. فلماذا إذًا إعادة النظر في ديوان عنترة؟


يرى جيمس مونتغمري أن نقد النصّ هو علمٌ تطبيقيّ مدعوم بمنهج نظري وليس تصوّرًا عقليًّا نظريًّا لكيفيّة تحقيق النصوص. فكلّ نصّ تراثي يتمتّع بخصوصيّة ويطرح تحدّيات وأسئلة خاصّة تستدعي إجابات وممارسات معيّنة على رغم أيّ تشابه قد يلحظه المرء بين النصوص وطرق مقاربتها. ومن هنا قارب الباحث ديوانَ عنترة كتجربة في التفكير في نقد النصّ وتحقيقه، وهو الذي قد أمضى زمنًا في ترجمة ديوان الشاعر والتي صدرت أخيرا عن المكتبة العربية لدار نشر جامعة نيويورك. فمونتغمري مؤرّخ للأدب العربي ومهتمّ بالتراث الجاهليّ وقنوات تناقله وتلقّيه عبر الزمان، وإنّ النصّ المولّد لديوان عنترة الناتج عن "التحقيق العلميّ" الجامع بين المجموعة التي اعتمدها الشنتمري والمجموعة التي اعتمدها البطليوسي أو المولّف بين مخطوطاتهما سيؤدّي إلى إغلاق باب الشواهد النصّيّة والقراءات الواردة في المخطوطات، بل وقد يصل الأمر إلى تشويه هذه الشواهد. فعلى رغم الشبه أو التقارب بين بعض المخطوطات فإنّ تغريب النصّ أو التوليف بين هذه المخطوطات سيؤدّي إلى تضييع القنوات التي وصلنا عبرها شعر عنترة ومعالمه الفريدة وطرق تلقيّه. ويسوق مونتغمري في مقدّمته ملاحظات نقديّة عديدة تدعم رأيه هذا.


 خلاصة الأمر أن مونتغمري وبهدف المحافظة على طرق تلقّي النصّ قد ضمّن في دراسته الأدبيّة التاريخيّة، الصادرة عن المكتبة العربيّة لدار نشر جامعة نيويورك، خمس تحقيقات مختلفة لشعر عنترة، معتمدًا 21 مخطوطةً بعد استبعاده لسبع مخطوطات. وتجنّبًا لتهجين النصّ قدر المستطاع، اعتمد الباحث على مخطوطة واحدة جعلها أصلًا لكلّ تحقيق، محافظًا قدر الإمكان على القراءة الأصليّة للمخطوطة التي شكّلت المتن، فيما أبقى القراءات المختلفة الناتجة عن مقابلة المخطوطات طيّ الهوامش. ضمّ التحقيق الأوّل مجموعة 27 قصيدة عن الأصمعي كما وردت في مخطوطة المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة في باريس 3273، وضمّ التحقيق الثاني المجموعة نفسها كما وردت في مخطوطة مكتبة السليمانيّة مجموعة نورعثمانيّة 3849، وضمّ التحقيق الثالث المجموعة نفسها كما وردت في شرح الشنتمري في مخطوط الخزانة الحسنيّة 2126 في الرباط. وخُصّص التحقيق الرابع لمجموعة 40 قصيدة كما وردت في شرح البطليوسي في مخطوطة المكتبة السليمانيّة مجموعة بيازيدB5385. أمّا التحقيق الخامس فجمع قصائد عنترة كما وردت في اختيار منتهى الطلب لابن ميمون مخطوط المكتبة السليمانيّة لاللي 1941.


الكتاب الذي بين أيدينا وليد جهد جبّار وتفكيرٍ طويل في الشعر الجاهليّ وطرق نقله وتلقّيه وصولًا إلى تحقيقه وقراءته ودراسته، ليبقى صوت عنترة صادحًا ومسائلًا: هل غادر الشعراء من مُتردَّمِ؟

*أستاذ للأدب العربي والدراسات الإسلاميّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت.

___

المصدر: الحياة 


إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016