-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

الشاعرة ريف حوماني، وصراعات النفي والاثبات ..!

وجدان عبد العزيز

الشاعرة ريف حوماني، وصراعات النفي والاثبات ..!

  

لا شك أن إيقاع الحياة، التي نعيشها الآن يتسارع على أكثر من جانب، يسايره صراع التناقض وسط صراعات أخرى، مما يشكل لدينا إشكالية الانعزال والاتصال، فنحن وسط تكنولوجيا اتصالات متسارعة، أي ثقافة الضغط على الزر، لتكون مع الصديق أو الصديقة بلحظات، ورغم هذا يعيش الإنسان حالة الانعزال والإحساس بالغربة، وهذه الصراعات تركت مسحتها على شعرنا المعاصر، وانعكاس هذا على نشاط الإنسان الشاعر المعرفية والانفعالية والسلوكية والعقلية، ناهيك عن صراعات الإنسان الثنائية المادية والروح، فالمادية هي جسد الإنسان ونفسه الحيوانية، والجسد كما نعلم يتكون من أجهزة وأعضاء وحواس، والنفس الحيوانية هي شريط من غرائز وعواطف وانفعالات ومخاوف مسرحها الدماغ، وأنها تتعرض للتغير والمرض والقياس، وهناك رأي يتحدث عن الطبيعة الروحية على أنها دائمة لا زمانية أو مكانية، تتكون من العقل والأنا والحس الأخلاقي والحس الجمالي، وللحس الجمالي مساران: الأول يسير أفقيا لاستيعاب الظواهر السطحية، والثاني يتجه عمودياً يحاول سبر الأغوار، أي اتجاه الأول نحو الظواهر والأشكال، واتجاه الثاني نحو المعاني والقيم، هذه الصراعات عشتها وأنا اقرأ قصيدة الشاعرة ريف حوماني (نظرةٌ إلى فراديس الوراء)، فالقصيدة كانت مثيرة لإشكالية هذا الصراع، فوضعت الأنا الشاعرة في كفة، وحالة نفيها من الشاعر الإنسان في كفة أخرى، وهنا نقع في صراع آخر باعتبار الأنا تتجلى في الآخر بوصفه مقابلاً حيوياً منتجا، وإن النظرة إلى (الآخر) حضاريا وثقافيا، تعتمد بالدرجة الأولى على طبيعة (الأنا) الناظرة وكيفيتها وحساسية مكوناتها، لذا فإن (الآخر)، يتجلى في مرآة (الأنا) استنادا إلى طبيعة العلاقة، التي يؤلفها جدل التفاعل أو الحوار أو الصدام بينهما، وربما لا وجود لأنا فاعلة وقادرة على الحضور المنتج من دون آخر مناظر ومواز لها يحرّضها على التمظهر الوجودي والفعل والتعبير عن الذات، وهذه الأنا تمتلك قوة ذاتية مركزية تتحدد ذاتيتها وقوتها ومركزيتها دائما بدلالة الآخر، تقول الشاعرة ريف حوماني:

 

 لم تكن شاعرا، كيما تُخَرِّقَ أهواؤُكَ الماسيّةُ في الأعماق،

كرغباتٍ طِوالِ الأكمامِ لِفِراءِ وجودي،

فأراكَ نفسي التي ترتجف كبرياءً، وكمالًا كاذبًا في زمهرير انكساراتي. 

 

نفت هنا الأنا الشاعرة عن الآخر المخاطب، وكأني بها تعلل الحال بقولها لو كنت شاعرا، كان استطعت خرق أهواؤك ووصلت لفراء وجودي، وكأن الشعر نقطة مضيئة لعتمة الأعماق، سواء عتمة الشاعرة نفسها، أو عتمة الآخر، واستمر مسار القصيدة في صراع النفي والإثبات المعلل بعلل رومانسية أكثر من رائعة، بحيث تبدى لي أنها تريد الشعر مقرونا بالصدق على طريقة الرومانسيين، فهم ربطوا الصدق بفكرة الحرية، لذا فان الشعر الصادق هو الذي يعبّر عن عاطفة قوية وعن وجدان قويّ وشخصيّة متفردة.. إذن الشعر الصادق هو الذي يؤلف بين الحقائق، هكذا يكون الجمال صادراً عن نفس الشاعر ومنعسكاً على الحياة، لترجع تغازل الآخر وتروم التقرب منه، إلا أنها لا زالت تستعمل النفي كونه شاعرا لماذا؟ فتقول 


لم تكنْ شاعراً

لكنك الشّجو الحلوُ، واهتياجات الذكرى، وارتعاشات الأماني

وكلُّ نيران النزوات ساعة تقدحُ ريفاً ريفاً في مخيّلات الطيور

كلُّ زقزقات حنينيتها الدافئة ساعة تغصُّ حريقها في حلْق الزمان

أو ساعة تصدعُكَ بين أكفِّها خيباتُ العمر

ريف حوماني

 

 وعند هذه النقطة تؤكد معطيات النص، أن الشاعرة حوماني تخاطب ذاتها، أو تخاطب الآخر، الذي أصبح هو كذاتها، والذات لها دور كبير في تفسير سلوك الفرد اليومي، كما لها دور كبير في تحفيز وتنظيم سلوكه، وهي مجموعة من المعلومات المتنوعة التي تصف الفرد، وتتكون من جزأين، أحدهما يخص الفرد نفسه، في حين يتعلق الجزء الآخر بالمجتمع أو ما يعرفه الأفراد عن الشخص نفسه، وقد جاءت تعريفات أخرى للذات، ومنها أنها شخصية الفرد وسلوكه الذي من شأنه الكشف عن حقيقته، وأنه اتحاد لمجموعة من العناصر وهي الجسم، والعواطف، والأفكار والأحاسيس، وهي ميزة لكل شخص وتعبر عن هويته، والذات هي جزء من الشخصية، وهي التي تميز كل فرد عن غيره وتجعله مختلفاً، وقد عرف هولتر مفهوم الذات بأنه الطرق التي يستخدمها الفرد للتعريف بها عن نفسه أمام الأفراد، فهي غير مفهومة العوالم، وتتجلى الذات عند الشاعرة ظاهرة واضحة من خلال الآخر، وهذا تجلى من خلال قولها

 


 في هذا الممرّ الطويلِ الطويل

أنْ أضمَّ تمزّقي إلى جنانيزِ ضفيرتِكَ الكئيبةِ،
إلى ما تراءى لي من معطفِكَ الصوفيِّ البعيدِ
أن ألتفتَ بنظرة كماء الوردِ إلى فراديس الوراءِ الشّهيّةِ فيكَ
أن أُسَمِّيَها حُبًّا عشقا، وغرامًا أرضيًّا أكيدا
أنْ أشرب كلَّ ما فيها من المسِّ والكهرباءِ واللّعناتِ
أنْ أجنيَ على نفسي فيها
ألّا أعدل عن جَلْدِ الوقت،
عن قَهْرِ السّيف المغمود في جُلْبانِ الغياب
أيُرجعكَ فمُكَ المُكَوَّرُ بالمواعيد إلى المعنى


فجملة المعنى أن الشاعرة حوماني نفت الأنا الشاعرة عن ذاتها وعن الآخر بقصد نفي مشاعر رقيقة عاطفية، كي تتخلص من هذا الضعف وتلاقي الحياة بفهم عقلي، لكنها عجزت عن هذا النفي من خلال تمسكها بالحب والجمال، لان بالتفاتة إلى فراديس الوراء وجدت نفسها وسط ساحة الحب والعشق، رغم صعوبة الغياب… لذا كان هذا هو الصراع المطروح في القصيدة، فالفكر يمثل ثقافة الـ “أنا” في حين أنَّ اللغة تمثل ثقافة الـ “نحن”، والفن شيء له علاقة بالـ “أنا” والأدب شيء آخر له علاقة بالـ “نحن”، ولذلك لا قيمة لأدب إن لم يخرج ضيق الـ “أنا” إلى سعة الـ “نحن”… وهذا ما ذهبت إليه الشاعرة ريف حوماني في قصيدتها

___.

المصدر: الناقد العراقي

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016