-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

رؤى فوتوغرافية تبرزها أعمال العراقي إحسان الجيزاني

رؤى فوتوغرافية تبرزها أعمال العراقي إحسان الجيزاني

 


جاسم عاصي

تنوعت رؤى الفنان الجيزاني وانصبت اهتماماته على ظواهر وطقوس وفعاليات مختلفة لعل أهمها:

الطقوس المندائية:

يلاحق الفنان الجيزاني الماء وتأثيراته الطقسية والاجتماعية، فبعد دخوله سحر الطبيعة في بيئة الأهوار، والتوغل في غمارها واتساعها، سار على منوال تتبع الأثر للماء في المعتقد الصابئي المندائي. فللماء عند أصحاب هذه الديانة قدسية، استلهمته من التاريخ الموغل في القدمْ، وسطرته في كتابهم المقدس (كنز ربا)، لاسيما نهر الفرات الذي ذُكر كثيراً في كتبهم. وها هو الفنان يرصد طقوسهم على ضفة النهر، مستسلمين لطاقته الربانية، معمدين أجسادهم؛ مواليدهم وأعراسهم ومقتنياتهم بالماء الجاري في النهر، عبر تلاوات من لَدُنِ شيخ متمرس في الأداء، تُبارك الإنسان وتُطهر وجوده. تتميز الصورة التي التقطها للطقوس الدينية، كونها تُدقق في الأداء الطقسي، فمن الماء وإليه، تلك الشعيرة المندائية وما يصاحبها من أداء، بمثابة العنصر المهم لدى الصابئة المندائيين. فمعظم اللقطات أخذت بنظر الاعتبار سعة الفضاء، سواء كان على البقعة التي يمارس عليها الطقس، أو امتداد ضفاف النهر. فالصفاء والنقاء الفضائي هو السائد على كادر الصورة، حيث لا يعم سوى بياض اللباس الديني، فكل شيء مغمور بصفاء البياض. فلا أدوات هناك غير العصا المقطوعة من شجرة مباركة، وأوان من الألمنيوم (الفافون) الصقيل لحمل الماء من النهر. إذ ترافق طقوس التعميد والمباركة؛ جملة شعائر كوضع يد الشيخ الطاعن في السن والمعرفة الدينية على رأس المُعمَدْ، وغرف الماء من سطح النهر وسكبه على رأسه، ونعني به التطهير لاستقبال عام جديد خال من الذنوب وشوائب الدنيا. وثمة أداء يقترب من طقس الوضوء والاستعداد للصلاة عند المسلمين، عبر الجلوس قرب النهر وغرف الماء ومسح اليدين والوجه والرأس. كما تتجسد قدسية شجرة الزيتون، عبر المسك بغصن ومسح الوجه، أو وضعه على العينين والجبهة، ومرافقة هذا بأداء لفضي بآيات من كتابهم المقدس أو مفردات الدعاء إلى الله القدير، إن الترديد الجماعي والاتحاد بالأيدي واحد من طقوس العبادة المندائية. فكل شيء في كادر الصور التي التقطها الفنان تنطوي على نقاء ونظافة وطهارة وصفاء روحي ..لقد عمد الفنان إلى تجسيد فضاءات الروح عند الصابئي، بفضاءات الأمكنة، وسحر سطح الماء وسمة السماء الصافية. كذلك اهتمامه بنوع اللقطة ودلالاتها الطقسية، فصوره لم تكن عشوائية الأداء والاختيار، بل مبنية على استلهام روح المعتقد والبناء عليه صرحاً فنياً خالصاً، وهو تجسيد لوظيفة الصورة الفوتوغرافية من بين الفنون والأجناس الإبداعية الأُخرى.

الأرصفة:

الرصيف واحد من الأمكنة التي رصدها فنانوا الفوتوغراف، لأنها تحتوي على فعاليات وظواهر مختلفة، لعل إيواء المنقطعين في الدنيا والمطرودين عن مجالهم الحقيقي واحد من الملاذات لهم، طلباً للرزق (الكَدية). المهم يكون الرصيف مكان احتواء المتناقضات في الحياة. وقد لاحظنا ذلك كثيراً في لقطات الفنان ناصر عساف حصراً. أما الفنان الجيزاني فقد حمل رصيفه التناقض الحاصل بين وجود المرأة التي افترشت الأرض للكَدية، والفتيات اللائي يقفن قرب صراف آلي لاستحصال المال من الرصيد. هذا الرصد الفني أضفى على وجود المرأة البائسة معنى عبر نظراتها للفتاتين. فهي إما عالجت ذهنياً ما يجري أمامها، أو هي بانتظار ما تجود به أيديهن بعد استحصال المال. والأرجح هو الاعتقاد الثاني بسبب الممارسة اليومية لهذه المرأة، واختيارها المكان عينه سبيلا للتوفر على المال. وقد راعى عكس هذا التناقض، من إظهار بؤس ملابس المرأة، وملابس الفتيات المتواضع، لكن الأنيق.

في الجانب الآخر كانت لقطة الجزء من جسد رجل لم يرصد ملامحه، فقط أظهر أسفله، القدم وجزءا من اليد. وقد ركز على قطعة الخبز المستقرة على قطعة كارتون. كانت اليد أكثر دلالة، بما تحمله من وشم وتجاعيد دالة على شيخوخة الرجل. إنها لقطة حققت رؤية صورة البؤس الذي تحفل به الحياة اليومية. بينما المشهد المألوف أن تجد امرأة طاعنة في السن، تتخذ من الرصيف مأوى لها، يضم كل حاجاتها من فراش وملابس وأدوات إعداد الطعام، إنه سكن في خلاء موحش، وبلا سقف. هذا الاهتمام من لًدُنْ الفنان دال على الإحساس بالفارق الطبقي الذي يعيشه إنساننا. فهو إما متخم أو محروم. لقد راعى الفنان في متحقق صوره الجانب الفني، كاستعماله للضوء والظِل بمهارة ساعدت على عكس الجانب النفسي للنموذج، كذلك طبيعة المجال بما يحتويه، الذي أسهم في عكس بؤس الإنسان. فنقاء الصورة لا يُلغي مرارة العيش، كما أنه اهتم بتجسيد الجزء لاستكمال صورة الكُل كاليد وتقاسيم الوجه.

لم يغفل الجيزاني عن مجزرة القتل التي تعرض لها النخيل في جنوب العراق. فهي دالات على وحشية مشعلي الحروب. فبعد أن طالت يد الحرب الإنسان، مدمرة وجوده المادي والمعنوي، طالت تلك اليد وبعد الهزيمة إلى قتل النخيل، قتلاً جماعياً.

مجزرة النخيل:

لم يغفل الجيزاني عن مجزرة القتل التي تعرض لها النخيل في جنوب العراق. فهي دالات على وحشية مشعلي الحروب. فبعد أن طالت يد الحرب الإنسان، مدمرة وجوده المادي والمعنوي، طالت تلك اليد وبعد الهزيمة إلى قتل النخيل، قتلاً جماعياً، فالقاتل يعرف ما يكمن من معنى ويخص مصير الإنسان الجنوبي في علاقته بالنخلة. فجز رؤوس النخيل يعني موتها الأبدي. فحياة النخلة في رأسها وكثافة سعفها النابت على قلب كبير ذي عطاء لا ينقطع. فهي جريمة لا يمكن تفريقها عن جريمة قتل الإنسان بمبرر الدفاع عن الأرض والمبدأ. فموت عناصر الطبيعة، يعني موت الأجيال، بعد الفقدان المر الذي شمل كل شيء في الوجود العراقي، ممتداً بتأثيره إلى أزمنة لاحقة. فمن الصعب التفريق بين مؤثرات الحرب على حياتنا الحالية، فكل ما حدث نتيجة لجريمة كبيرة ما زال يمارسها ذوو العقول التي لا تعرف سوى صناعة الموت. والجيزاني بتركيزه على آثار الحرب وتطاولها على النخيل، يعني وحشيتها بما تتركه من دمار. حاول الفنان باختياراته لمثل هذا المشهد أن يجسد الكل والجزء، وإظهار المساحات من الأرض المفروشة بالجذوع اليابسة والفاقدة للحياة، وسط فضاء تطغى عليه علامات الموت، لاسيما تلاعبه بالأسود والأبيض، فالظل غلب على مشاهد الموت، ليسطر سمفونية لونية للموت الجماعي، ويجسد تراجيدية الدمار الذي لحق بالطبيعة، أي بتاريخ الأرض، خاصة أن صور المجزرة أظهرت جريمة كهذه في مدينة الفاو الجنوبية.

إحسان الجيزاني في مهجره، لم يغادر ذاكرته في كل ما جسده فوتوغرافياً. وهذا جزء من الحنين الروحي للمكان الذي ترعرع في حاضنته، ما دفعه إلى أن يهتم ويعكس جمال الأمكنة المختلفة، والطقوس التي رافقت وجودها . كما ذكرنا عبر مسح لتجربته في اختيار لقطات وزوايا صوره الفوتوغرافية.

___

المصدر: القدس العربي

 

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016