-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

لغة التحولات: تحولات اللغة


قراءة في ديوان ‘حارس المعنى’ لأحمد الخطيب
نضال القاسم
بين مجايليه من الشعراء الأردنيين يختلف أحمد الخطيب بانحيازه إلى قصيدة التفعيلة. وتقف مجموعته الشعرية الجديدة ‘حارس المعنى’ وحيدة في أجوائها وموضوعاتها، وحتى في شكل مقاربتها لتلك الأجواء والموضوعات. هو شاعر يتنصل من رصانة التصقت بالشعر عموماً، وبالشعر الحديث خصوصاً، بالمعنى الذي يبيح له ولوج مشاهد وعوالم شعرية من حدقة تمزج الرؤية العيانية لما يقع عليه النظر المباشر بمقاربات المخيلة، والفكرة في سعي لتكوين شعري آخر، له مذاقه المختلف، ونكهته المميزة.ومن المهم الإشارة هنا إلى حيوية الموضوعات التي يكتب عنها أحمد الخطيب، وبالتحديد أكثر زوايا الرؤية والنظر، وهي هنا التفاتات ذكية يعرف كيف يلتقط التفاصيل الصغيرة التي تكوّن المشهد الشعري، وتجعله ينبض بالحياة والحركة، ما يمنح المشهد والصور بلاغة أعلى هي بالتحديد بلاغة الرؤية وجماليتها. رؤية شعرية كهذه إذ تأتي في بنائيات قصيدة التفعيلة، تختار في الوقت ذاته وشائج من نوع مختلف مع العالم المحيط، وتختار بالأساس زوايا رؤية أبرز ما فيها إتكاؤها على نوع من ‘فانتازيا واقعية’ تعيد تقليب الأشياء، الموجودات، والأماكن، وبالضرورة، تعيد تأسيس العلاقة مع المحيط بمجمله انطلاقاً من المخيلة وتجوالها الطليق.وأعتقد أن تجربة أحمد الخطيب الشعرية تأخذنا إلى ملاحظة الأهمية الكبرى لموضوع التجريب الشعري عند جيل الثمانينيات، وهو تجريب نراه يصبح أكثر إيجابية وأكثر شاعرية حين يمتزج بروح البحث عن فضاءات حيوية للقصيدة لا تنفصل عن الحياة في حالاتها الواقعية وموضوعاتها.كما أن طليعية أحمد الخطيب لم تمنعه من الالتزام بالإيقاعات الموزونة والقوافي الصادحة، وهو ما نراه على أية حال في قصائد ‘حارس المعنى’ التي يبحث فيها عن الانتظام ‘الشكلي’ وعن الوزن حيناً، وغالباً عن القافية. وقد شكل القانون الوزني بالنسبة للخطيب ضرورة شعرية جنباً إلى جنب طليعية فكره وحداثته العميقة. وقد ارتكزت تجربة الخطيب في ظاهرها على البعد الإيقاعي المباشر للكلمات في قصيدة التفعيلة، لكنه لم يتمترس خلف هذا البعد، فجعله يتحول في مجموعته الأخيرة إلى مظهر هامشي ينسحب تدريجياً ليدع الصورة الشعرية بالتماعاتها الذكية تحتل متن القصيدة. ‘لي حكمةُ الوزنِ،/ لي أسرارُهُ / ولهُ/ إذا نموتُ بفعلٍ ساكنٍ،/أو حُزتُ فيهِ متاعي هائماً أبداً /أن يأخذَ الطينَ مشويّاً بعزّتِه /وأنْ يلامحَ ما أسررتهُ،فغدا /سهماً لعاكفةٍ في زلّةٍ،وإذا / نَمَْوتُ وحديَ،/صار المشهدُ السّندا/أو خفتُ رجزَ الخطى،/واحتجتُ كاعبةً/ تطفو على الموجِ من أعصابهِ،/..وترى ما لا يراهُ الذي يبري لهُ العددا’ ‘حارس المعنى/ قصيدة: حكمة الوزن، ص30 – 31’.وأما موضوعات قصائد ‘حارس المعنى’ فإنها تنضوي كلها تحت ذلك العنوان الذي اختاره أحمد الخطيب لكتابه الشعري، والذي يحمل للقارئ مفارقة حادة، توحي بالوقوف بين عالمين يتناقضان إذ يلتقيان، ولكنهما مع ذلك يتوحدان في انتمائهما إلى الرَغبة في القبض على الحقيقي الذي تخلقه تلك التناقضات.وتروقنا في قصائد الخطيب براعةُ السردِ الذي يدخلُ في الحوارِ الذاتي للقصيدةِ. وهذهِ الميزة من خصائصِ أحمد الخطيب بل من أهمِّ ميِّزاتهِ. وقد حافظ الشاعر في مجموعته الجديدة على ما عرفناه في مجموعاته السابقة من استخدام لتقنيات المونولوج والحوار، والسخرية السوداء التي تفتقت في هذه المجموعة عن نصوص فريدة في متانة بنائها وطرافه فكرتها ورشاقة سبكها ونبل دلالتها، مثل قصيدتي ‘أسباب مزجاة’ ص111، و’رقّقهُ البرقُ فأبرقَ لي’ ص241.وفي ‘حارس المعنى’ يواصل هذا الشاعر المسكون بالصخب وغبار الأماكن والأزمنة ترحاله الذي لم يتوقف في دهاليز حياته اليومية مفعماً برغبة لا تحد في مناوشة ما هو هامشي غالباً، حتى وهو يكتب عن الحب موضوعه الأهم والأكثر شيوعاً في شعره. الحب في قصائده يتجول بما يشبه الهيبة والترقب والخوف. إنه ‘حذر’ العاشق إذ يرى روحه في مرايا الحبيبة وفي حزنها وتناقضها معا. فقصائده شديدة الالتصاق بالحياة، وجزئياتها اليومية، ولكنها مع ذلك تتنكب عن مألوف القصيدة اليومية وتبحث لنفسها عن ملامح أخرى تعثر عليها في فضاء تأمّلي، فيه الكثير من رغبة عارمة في كشف دلالات ما وراء اليومي، وخلف ظلال المألوف والعادي الذي نمرّ به فلا نكاد في الغالب ننتبه:- ‘في سيرة العطشِ التفتٌّ إلى غيومي/ أيها الماضونَ في جسدي، لَكُمْ / من ساحلي قَصْفُ الرمالِ على سريرةِ عاشقٍ / خَلَفَ الصلاةَ على يديهِ منَ الرّياشِ،/ وظلَّ يضحى في دمي،يبكي،/ ويضحكُ،ثمَّ يبكي كلَّ ما انفردا/ وأنا فمي/ إيقاعُ جرحٍ/ عاد من غزواتهِ/ أسدا’ ‘حارس المعنى/ قصيدة:والأناةُ صدى، ص292’.وبالرغم من السوداوية والقتامة اللتين عُرفتا عن قصيدة أحمد الخطيب، إلا أن اللوحة الشعرية في ‘حارس المعنى’ قد بدأ يتسرب إليها مزاج لوني جديد يختلف عن مجموعاته الشعرية السابقة، مزاج يغري الشاعر بتشكيلات لونية وبصرية يستمتع فيها بتناوب الألوان على تحريك المشهد والدلالات والمشاعر الكامنة وراء الصورة، مزاجٌ يجعله شاعراً يلوّنُ الريح والمواعيد، فهي خطوة أخرى، جديدة وعاصفة في تجربة الخطيب الذي اعتدنا رؤيته مسكوناً بالرّغبة في التعبير عن الحياة في تجلّياتها الأشد قسوة وبرغبة مماثلة في الصعود بقصيدة التفعيلة نحو ذرى أعلى، حيث يمكنها من هناك بالذات أن تصرخ بأعلى الصوت، وهي بنائية تستفيد بالتأكيد من إيقاعاتها إذ تتآلف معها وبها على تكوين مشاهدها بكثير من أناقة الصياغة، ومن جمالياتها إلى الحد الذي يجعلنا نقرأ قصائد ‘حارس المعنى’ بمتعة، خصوصاً وأن الشاعر ينجح كل مرّة في جعل ‘حكاياته’ الشعرية لوحات تشكيلية تنبض بالحركة وتشتعل بالألوان، وهو يستفيد في ذلك من كل ما توفره القصيدة الإيقاعية من تناغم بين الجملة الشعرية وبين وقعها في نفس القارئ،خصوصاً وأن قصائد المجموعة تجمع بين الغنائية والسّردية في سلاسة ويسر.وفي الديوان اشتغال متقن على الصورةِ الشعريَّةِ وعلى تركيبِ الجملة في القصيدةِ وعلى التدوير البديع الذي لا يخرج بك عن سياق الحالة الموسيقيَّة العامة في النصِّ..للوهلةِ الأولى تشعر أنَّكَ أمام شعر جديد تعبَ صاحبهُ عليهِ كثيراً..فهو موصول بأصالة اللغة المصفَّاة وصرامة أساليبها وغزارةِ معانيها ومفرداتها الشعريَّةِ التي كأنها قد نُحتت من الصخرِ الليِّن.. وفي الوقتِ نفسهِ نجدُ أخيلتهُ وكأنها تنهمرُ علينا بصورهِ المخترعةِ من عالمِ المستقبلِ وفضاءاتِ قصيدةِ التفعيلة الرحبةِ الزاهيةِ بالأقواسِ القزحيَّةِ. والمشبعةِ بالرذاذِ الضوئيِّ.’الجمرُ أوقع مقلةَ الغيم ابتداءً/ حين شاهدني على جمرِ التحسُّرِ،/قلتُ: يا صمدُ،/ في كوكب الجوزاءِ مملكةٌ،/وأعرفُها، كما أنجو إذا ولجَ الضّحى،/وظننتُ أني قربَ عينِ الماءِ أنفردُ’ ‘حارس المعنى/ قصيدة:يعقلُ ليلَها الأبدُ، ص205’.وللشاعر قصائدُ بالغةُ الجمالِ والخصوصية اللفظيةِ والشفافيةِ.. قصائدُ تبلغُ حدَّ النشوةِ والكمالِ بامتيازٍ..منها قصيدة ‘ماذا تقول الريحُ للمرآة’ فهيَ من الروعةِ والدقةِ في التصوير بحيثُ تجعلكَ تذهلُ عمَّا قرأتَ قبلها من شعرٍ.. يقولُ في مطلعها:-‘حجلٌ يؤنّبني،/ يؤنّبني حجلْ/…لِمَ قد كتبتُ عن الصغيرةِ،/ واختزلتُ العمرَ في لحظةْ/ حجلٌ يؤنّبني،/ يؤنّبني حجلْ/ فأدورُ كالنارنجِ في حقلٍ من الإغواءِ،اكتبُ عن دمي، لأضيع في النسيان، يشهدُ أرجوانُ الجرحِ أنَّ العمرَ مسلولٌ من الأرضِ القديمةِ،/أن هذا الطين أسئلةُ الحياةِ’ ‘حارس المعنى/ قصيدة: ماذا تقول الريحُ للمرآة، ص415’.وقد جاءت مجموعة ‘حارس المعنى’ رصد لتعارضات حادة تشكل مشهدية درامية ذات سقف فلسفي وجمالي، وهي تجميع للمختلف وللحالات المتناقضة،وتخصيب لماهية الوجود الإنساني بأصالته، وجدته، وهشاشته، فعلاقات الملامح اللغوية التي يتضمنها الديوان متشابكة فيما بينها، وذات درجة عالية من التراتب والتعالق، وهي علاقات ذات طابع إيقاعي وصوتي، تؤسس لأعراف النظم والإيقاع من جانب، وذات طابع مرتبط بالأبنية الدلالية والمجازية وسمات انحرافيَّة أو تكرارية من جانب آخر، وهي تمارس وظائفها بشكل مرهف دقيق مرتكز على قوانين الشعرية الجديدة وفاعليتها وقدراتها على الإيحاء بمدلولاتها النصية واللفظية.ولابد من الإشارة إلى ولع أحمد الخطيب بالتكرار في مجمل شعره. وتتجلّى خاصية التكرار هذه، مثلاً، في قصيدتيه:’ماذا تقول الريح للمرآة’ و’ابتكار المعاني’، بحيث يخرج التكرار، في هذه المجموعة، عن وظيفته التقليدية في التوكيد ّ؛ فيذهب أبعد من ذلك، لا للتوكيد على كثافة الدلالة أو فداحتها، بل على انتشار هذه الدلالة وتفشّيها في عموم النص، وتردد أصدائها في مختلف أرجائه. ومن الخصائص الفنية التي تميز بها الخطيب إستعماله للأسلوب القصصي كما في قصيدة ‘ماذا تقول الريح للمرآة’ التي جاءت في صورة حوارية وهي من روائع هذا الديوان وقصيدة ‘أرابيوس’ التي يحلق فيها الشاعر إلى ذروة جمالية ومن ثم فإن شاعرنا لا يؤدي رسالة إجتماعية وإنسانية فقط بل يقدم لنا رسالة جمالية أيضا.نقول ذلك وفي البال ما حملته قصائد هذه المجموعة من تجريبية أساسها المزج بين عالمي المشهد الشعري وبين اللغة بما هي تركيب يكتسب شاعريته من براعات الصياغات وأساليبها، فالقصائد تكتفي من اللغة بما يلزمها كضرورة، نائية بذاتها عن أية استزادة تثقلها وتفيض منها، وبهذا المعنى تربح الشعرية واللغة على حد سواء، خصوصاً أنه بذلك التكثيف اللغوي يحقق تكثيفاً بصرياً هو من عدّة الشعر وأهم جمالياته. إن أحمد الخطيب في مجموعته الجديدة ‘حارس المعنى’ يأتينا من فرجة المفارقة، وباب المتناقضات، وهو يفعل ذلك برغبة عارمة في إكساء العادي والمألوف حلة الشعر ووهجه وألوانه الزاهية. والملاحظة التي ينبغي تسجيلها في آخر هذه القراءة، هي أن ديوان ‘حارس المعنى’ للشاعر أحمد الخطيب مقارنة مع ديوانه الأول ‘أصابع ضالعة في الانتشار’ يمثل تحولاً عميقاً في تجربته وحساسيته الشعرية على مستوى البناء الدلالي والنصي وعلى مستوى تصوره للكتابة الشعرية الذي غدا شبيهاً بمشروع شعري له خصوصيته القولية والرؤيوية.ويمكن القول أخيراً إن تجربة أحمد الخطيب الشعرية هي محاولة دائبة للوصول إلى وحدة بين العمق والوضوح، وإلى وحدة في البنية، بلا لعب ذهني أو زخرف لغوي، فالصورة المجازية في نصه لا تكتفي بذاتها، إذا ما توفرت، وهي ليست هدفاَ مغرياَ على كل حال. وقصيدته توكيد على أن مهارة الصورة المجازية الصادمة هي مهارة عضلية، ولا تشغل شاعراَ مهموماَ بالقلق الروحي، الباحث أبداَ عن وحدة بين العمق والوضوح، والتي تتطلب مهارة نوعية.

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016