منذ أن أطلق صرخته الأولى
في قريته قوميّة ، العام 1938، ومنذ أن أطلقت قريته عصافيرها فرحاً بقدوم الفتى،
شحن الشاعر د.إبراهيم الخطيب غيمها بالصّور، ودرّبها على الطيران المختلف باتجاه
الحقول المتعددة. منذ ذلك البكاء الذي جمع العائلة على جماليات المعنى، بولادة
موهبة شعريّة فذّة، عاين الخطيب بعينيه اللماحتين المكان وتأثيراته، والأنثى
وحلولها في الذات. ومنذ الحبو الأوّل على عشبها، وأديمها، شرب الخطيب من سلسبيلها
العذب ما هو سائغٌ للعاشقين، ومنذ الركض الأوّل بين حقولها وعلى أطرافها القابعة
فوق تلّة تتجه صوب قلب فلسطين، نصب الخطيب فخاخه لاصطياد الهواء.
لم تكن البداية رمحاً ينسلُّ
من وجع الذاكرة، إنما كانت من اللحظات التي أعقبت اللجوء الأول، عندما تسلل الخطيب
الشاب اللامع في دراسته، إلى مرتبة لا يضاهيه أحدٌ على التماس منافذها، لم تكن
البداية من غناء متقطّع كان يدندنُ بهِ في ساحة الدراسة، إنما من الإنشاد الذي كان
يقرِّبُهُ من أساتذته الذين رأوا فيه تلميذاً نجيباً وشاعراً سيكون له شأن في قادم
الأيام.
صعد الشاعر
الخطيب سُلّم اللغة والعلم من بؤرة اللجوء الأول الذي حطّ رحالهُ في مدينة جنين،
متوكئاً أحلام شعب لم تسعفه صيحة الضمير، باحثاً عن سرب العصافير الذي كان يقرأ
معه في ليالي السمر ذاكرة ما تيسّر لهُ من أمهات الكتب، لينتهي المطافُ إلى نبوغه
المبكر في الدراسة، ويحصل على المرتبة الأولى في الثانوية العامة العام 1956.
كانت المسافة
بين قومية وجنين في كينونته المكانية كأنفاس الحلم، تحتاج إلى معجزة في زمن غياب
المعجزات، لكنها تشكلت في قصائده القليلة آنذاك ببقعة يطأها متى يشاء، وكيف شاء،
وكما كانت تنبئ قصائده بتوحّدها الأزلي في الوجدان والذاكرة، فأدركَ أن لا مناص من
الاحتفاظ بها في مرايا اللغة، حتى إذا ما استقوى على اللجوء، شكّلها في فضاء الأمل
لوحةً للعودة المنشودة.
اتجه الخطيب
في ما بعد إلى بقعة جغرافية ربما أراد منها أن تحقِّق لهُ نوعاً من التوازن بين
غربتين، غربة الذات عن سياقها المجتمعي، وغربة اللجوء في سياقها التاريخي، اتجه
إلى السعودية، وبالتحديد إلى مدينة أبها ، ليعمل مدرّساً. وفي لحظات التجلي كان الشعر
يداهمُ خلوته فجأة، ليصطاد لآلئه التي لا تستسلم إلا لمن خبرَ عمق البحر ورهبته،
وهكذا كان شاعرنا. مكث في السعودية تسع سنوات، ليعود بعدها إلى الأردن، وبالتحديد
إلى إربد، حيث العائلة في لجوئها الثاني. لم يصمد أمام إغراء العلم والطموح،
لتنطلق به عربة الحياة إلى غربة جديدة، غربة اختيارية، إلى دمشق، ليلتحق بجامعتها
في كلية الطب، ويتخرج فيها العام 1973.
هناك في
دمشق، أعاد الخطيب قيم الجمال الروحي، حيث بدأ في قرض الشعر، بالتساوي مع
اهتماماته العلمية (مفارقة مُتخيّلة: الاتجاه العلمي، والرغبة الروحانية، التي ستفعل
فعلها فيما بعد، لينتصر العلمي على الروحاني في بادئ الأمر). بدأ بالمشاركة في
فعاليات الجامعة الشعرية، وفي مسابقاتها، حيث حصل على لقب شاعر الجامعة ، والتفّ
كثير من أصدقائه حول لغته التي تشف عن روح هادئة ولكنها معذّبة، روح تجمع في
جبّتها أكثر من لجوء، وأكثر من أمل.
هنا بدأ بملاحقة الصبايا
شعراً، لترقص اللغة على مخدع الحلم، حيث يقول في قصيدة له كتبها أثناء دراسته في
الجامعة:
يا ابنة الشام لا أطيق
الغراما
ففؤادي محمل آلاما
قد خبرت الفراق والوصل
قدما
إن قلبي في الحب صلّى
وصاما
ثم لتتشعب
اهتماماته الشعرية، بالإنصات إلى القضية المركزية، قضية فلسطين، ليكتب فيها من
عصارة وجدانه ما يجعل الجمهور الذي كان يتابع قصائده في الجامعة يحفظها ويردِّدها
في مناسبة عدّة.
في غمرة هذه الاهتمامات يعود شاعرنا إلى الأردن، ليعمل في وزارة
الصحة طبيباً عاماً، وليفتر نوعاً ما إيقاعُ الشعر في هذه اللحظات الحرجة التي
تتمحور حول العمل والعائلة ومشاكل الحياة، لتضغط هذه اللحظات على الحبل السِّري
الذي يوصل العلم بالأدب، لكنّ طموح شاعرنا يذهب بعيداً في التماس المؤهل العلمي
التخصصي، ليحزم أمره ويحمل روحه على كفه، ويطير إلى أميركا، تصحبه عصافير قوميّة ،
وهناك يضع رحاله سنوات في مشاكسة العلم، متخذاً من اللجوء الجديد نافذة للوصول إلى
أعلى مراتب العلم، كما كان الشعر آنذاك سبيله في تحقيق الذات الفلسطينية الجمعية
إلى جانب تحقيق الذات العلمية الفردية، وإن كانت في جانب آخر، تشكل ذاتاً جمعية
ينفذ من خلالها إلى الاتصال بالروح الفلسطينية المنهكة في مخيمات الشتات.
تستمر رحلة
شاعرنا في أميركيا سنوات عدّة، تتجاذبه مقوّمات الشخصية المبدعة التي تحيا على
إيقاع اختراق اللجوء المتكرِّر الذي صاغها، ليعود متأبّطاً شهادته العلمية البورد
الأميركي في أمراض النساء والولادة ، العام 1981، وكأنها إشارة يختفي وراءها إيقاع
الشعر الذي يسعى إلى تجسيد حالات الخصب والولادة، هذا الشعر الذي لم يمت في
وجدانه، ولم تنطفئ جذوته، بل كان يفتح سبيلاً لمزاوجة ذهنيتين مختلفتين، ذهنية
قارئة لواقع الحياة، تجلّت بتفوّقه العلمي، وأخرى حالمة تبحث عن منازل الخلاص من
هذا الواقع، تجلّت بغزارة إنتاجه الشعري في ما بعد.
يستقر المقام
بشاعرنا بعد عودته إلى الأردن العام 1982، في مدينة إربد ليعمل طبيباً في مستشفيات
وزارة الصحة، وهنا تنقلب المعادلة، فالوجدان الروحي، والإيماء الشعري، كانا
بالمرصاد للوظيفة التي تقيّد حركة الشاعر والشعر معاً، فالوظيفة إيقاع منظم يحتاج
إلى قوانين خاصة تحكم العلاقة بين الإنسان ومحيطه، وهذا ما يناقض الجبّلة الحقيقية
لشاعرنا الذي راوغ الشعر طيلة السنوات الماضية لحساب العلم، حتى كاد يختفي، ولكن
هيهات، فالاستقرار النفسي كان بمثابة الشرارة العظمى لانطلاق حنجرة شاعرنا، وتململ
الشعر، ولسان حاله: كفى، لقد حانت لحظة القطاف، ليقدّم استقالته من ملاك وزارة
الصحة، ويفتتح عيادته الخاصة في مدينة إربد، لتكون محجّاً ومزاراً للأدباء،
الشعراء على وجه الخصوص، بالإضافة إلى ما تشكله العيادة من واحة علمية لمعالجة
تأزّمات الحالات الإنسانية التي تبحث عن الخصب والعطاء.
تبدأ رحلة
شاعرنا بعد أن التقط أنفاسه، ووفّر نوعاً من الاستقرار لعائلته، بالانخراط في
الحراك الأدبي والثقافي في الأردن، من خلال الأمسيات الشعرية التي كان يحييها هنا
وهناك، ومراسلة الصحف المحلية والعربية التي استقبلت قصائده بترحيب كبير، واهتمام
لم يحظَ كثيرون بمثله، حتى إنه وخلال فترة وجيزة استطاع أن يسطّر اسمه كواحد من
الشعراء المهمين على المستوى المحلي والعربي، وسرعان ما أصبح عضواً في رابطة
الكتاب الأردنيين. وفي غمرة هذا الانخراط في الأمسيات والندوات والمهرجانات، الذي
امتد من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، أصدر شاعرنا ديوانه الأول بعنوان
غنِّ لي غدي ، وكأن هذا العنوان الذي افتتح به إصداراته كان يشي بأن غده الشعري
قادم بقوة، وتوالت إصدارته التي بلغت أربعة عشر ديواناً تحت أسماء متنوّعة يربطها
خيط الحلم بالعودة إلى مسقط رأسه، كما يربطها الاجتهاد لإيجاد صيغة توافقية بين
الشعر الكلاسيكي وشعر التفعيلة، كما تشير قصائد مجموعاته الشعرية بتعدد أغراضها
وأوزانها التي لم تترك شاردة ولا واردة إلا نصب الشعر لها فخاخا.
ساهم شاعرنا بقوّة ظاهرة في الحراك الثقافي في الأردن من خلال بعض
المواقع التي شغلها في رابطة الكتاب الأردنيين، كعضو الهيئة الإدارية لفرع إربد،
وعضو الهيئة الإدارية وأمين العلاقات الخارجية للرابطة، واهتمامه بالطاقات
الإبداعية الشبابية التي كانت تنهل من معينه الذي لا ينضب، إلى جانب تمثيله للأردن
في المهرجانات العربية والدولية، منها مهرجان المربد الشعري، ومهرجان حمص، ومهرجان
أنطاكيا للشعر العالمي، وغيرها، إضافة إلى نشره للقصائد في كبريات المجلات والصحف
الثقافية العربية، كما ساهم شاعرنا بكتابة الأغنية، وحصل على المركز الأول للتأليف
في مسابقة الأغنية العربية.
للشاعر ملكة واضحة في حفظ قصائده عن ظهر قلب، والقصائد المميزة من
عيون الشعر العربي مهما بلغ عدد أبياتها، مما ساعده على بلاغة الارتجال والإلقاء،
كما يمتلك قوة في الملاحظة وسرعة البديهة، وصاحب فراسة في إجازة الشعراء الشباب،
وهو صاحب نكتةٍ في شتى حقول الحياة، وعازف عودٍ ماهر كثيراً ما رقّص أوتاره في
الجلسات الخاصة.
_________
*انتقل إلى رحمة الله يوم
السبت 5/2/2011 ووري الثرى في مقبرة بشرى الإسلامية
شهادة إبداعية
ردحذفشهاد إبداعية
ردحذف