في مجموعته هذه الصادرة حديثا ،عن جامعة المبدعين المغاربة ، يطالعنا
الأديب المغربي المبدع قطب الريسوني، بمنظومة شذرات تغالبها نكهة الشوقيات
والثقافة المنتصرة للحياة والمنبت الرموز الإنسانية عموما.
كتابة تزدان بذاكرة مدينة تطوان، وتوغل في تفاصيل عراقتها و تاريخها
وموروثها ،وتسحر بسير نجومها.
يرثي الشاعر الكبير محمد الحلوي ، فيورد أبياتا وهو الغائب /الحاضر،
نهلا من رائعته المترعة بمرارة النبوءة ،إذ تخلّد صوته المخملي الهامس (غدا سأرحل):
[غدا يُرفعُ النعشُ فوق
الرؤو سِ ويعملُ في تُربتي
المعولُ
وأرقدُ فوق سرير ليس بــــــلا غطاء وليس
لـــــــــــــــهُ مخملُ
ويسلّمني الأهل في موكب
إلى مـــــن يُخيفُ ومن يسألُ
وقدْ يتفجّع ُ لي شاعرٌ
إذا كان ممّن بنا يحفلُ
نُريدُ لأعمارنا أن تطول
وحادي القوافل لا يُمهلُ ].
فينتقل داخل حدود تعبيرية ،تدغدغ بكريستالية معجمها، ولبوس شعريتها،
جوارح التلقي، كي يعصر لنا من دالية عملاق آخر في الأدب ،الراحل محمد الصباغ،
كؤوسا من معسول الأنهار الأخرى، بدفق مفردات نشاز كأنها انسياب قطر الندى، بوقع
على الروح كالبلسم، معها الرواء جدّ مستحيل، حتّى وأديبنا الجميل الدكتور قطب،
يستأنف نسج مرثاته، محتفيا بسرب الرموز التي طواها الزمن ،واقتطفتها يد الردى، على
حين غرّة، بيد أن شعْرياتها وأدبياتها وفيوض إنسانياتها، مجّدتها وبوأتها فوقية
كأشهى ما تكون الفراديس الغاوية، في سجلاّت السرمدية والخلود.
تلكم فولكلورية التخييم بمضارب القول البديع، ما بين صفحات القصائد
العذراء ،وآفاق السّرد المخمور بأسرار المدن والتاريخ والهامات.
كتابة تستدعي إلى موائدها ،الأحياء أيضا، مثل عبد الكريم الطبال أو
ناسك الجبل مثلما يحلو للبعض تسميته، أطال الله عمره، فتغدق عليه من البلسمية وماء
الحياة، ما يُلبسه العنفوان مرّتين : عنفوان القصيدة وعنفوان حمامة الشمال تطوان.
يقول قطب:
[ثمّ طفت ما شاء الله لي
أن أطوف في معروشاته النغمية، إلى أن قرّ التّطواف في عريش ( النمنمات) .. ولمّا
سُئلت عن السر الذي شدّني إلى شعر الرجل في اقتبالي واكتهالي، أجبت : الأشياء
والمرئيات توشوش له بالعجب، ولا يكاد يسمع وشوشتها غيره من الشعراء.. فما لم تقله
عندلة لعندلة في عريش الهديل، وما لم تقله وردة لوردة في خلوة الندى، وما لم تقله
موجة لموجة على مائدة الرُّغى.. تجده مبثوثا في شعر الطبال، وكأني به مستودع أسرار
كلّ رقيق، ونسيق ومشنَّف].
فلائحة طويلة جدا بأسماء سدنة الفكر والأدب والفلسفة والتاريخ، يلوّن
بها قطب الريسوني سياحته السردية هذه ،والمتماهية مع الخطاب الهذياني الذي يمنحها
شعريتها ويرتقي بها إلى مقاصد اشتراكية الهوية، ويذوب بها في البعد الإنساني
الراشق بزقزقة النرجسي، وكيف أن ثقافة ووعي " النحن" يرفده ويغذّيه.
استهلالا بالجاحظ وأبو حيان التوحيدي وعباس محمود العقاد، مرورا
بمحمد تيمور والأخطل الصغير وسعيد عقل، وانتهاء بمحمد المنتصر الريسوني وحسن
الوراكلي.
نجده وقد جزّأ منجزه إلى فصول يتداخل ويتشابك فيها الشعر مع السرد
والسيرة مع الذاكرة والعرفاني مع الجمالي إلخ.
يخاطب المدن ويؤنسن الأشياء ويحتفي بالرموز ، يثرثر بلغة القلب حينا
،كما يرخي للممارسة الذهنية ويتيح لها مساحات كافية ، لنضج عناقيد الذات وهي تضمّد
انكساراتها، مدّ مرايا الذاكرة والتاريخ والموروث والرموز في ضوء مشتركها
الإنساني، المناهض لقوقعة خرائطية الألسن والجغرافيات والألوان والمعتقد.
يهدي مجموعته الباذخة هذه، بما الفعل الإبداعي انكتاب، يهدل بالنوبات
العاشقة، فيصطبغ بأريج القصائد هنيهة، وأنثروبولوجية الحكي تارة أخرى، يتغزل
بحمامته الأثيرية تطوان فيدندن:
[لأنَّ عيْنيْكِ مْصْباحي
لاَ أكْتُبُ إلاَّ ليْلاَ..
لأنّ ضفائرك سريري
لا أصحُو من غفوة سندس
لأنَّ أنفاسكِ حبري..
تتضوع كلماتي كالصّندل.'
إليكِ.. تطوان
أُهدي " سيرة الأرجوان"].
***سيرة
الأرجوان(مجموعة قصصية)طبعة أولى2019،منشورات جامعة المبدعين المغاربة، الدار
البيضاء.
شاعر وناقد مغربي
إرسال تعليق