-->
العهدة الثقافية  العهدة الثقافية

القضاء على لكن .. في رواية: هيرمافروديتوس للروائية العُمانية: (بدرية البدري).





مظهر عاصف

 لم أستطع أثناء تنقُّلي السلحفائي اللذيذ بين فصول هذه الرواية؛ أن أقضي على

<< لكن>> التي تصاحبُنا عادةً في الحكم التواتري المستمر أو النهائي على تذوقنا للأشياء المحسوسة والملموسة رغم كراهيتي لها؛ مُندفعًا من قانونٍ شرَّعتُه لنفسي حديثًا ينصُّ على :<< أن من حق الكاتب أن يذهب حيثما أراد, ويتنقُل بين أحياء وأزمان وأشخاصِ مملكته متى أراد, ويرفعُ ويحطُّ من أبطال روايتهِ من أراد... يحقُّ له ما لا يحقُّ لأبطالهِ وكومبارسهِ طالما أنه الوحيدُ الذي يضعُ الرخَّ مقامَ البيدق والعكس على مربعاتِ نصه في النهاية..


لا لشيء.. فقط لأنه يريدُ ذلك>> .

هل أحتاجُ لمقدماتٍ وتوضيحات للحديث عن متناقِضين تمامًا, أو قطبين مختلفين في جسدٍ واحد ضمن الأسطورة اليونانية "هيرمافروديتوس"؟!


سؤالٌ نفيتُه سريعًا ب كلا.. (فجوجل) باستطاعته شرح ذلك للقارئ الذي لا بد أن يثيرَ فضَولَه عنوانُ الرواية الطويل؛ الذي لم أستطع نطقَه جيدًا حتى هذه اللحظة, حتى أنني كلَّما أمتدحتُ هذه الرواية لأحدِهم ناصحًا إياه بقراءتها حذرتُه مباشرةً من سؤالي عن اسمها لصعوبته؛ مكتفيًا بإرسالي الرواية كملف مضغوط, ولتقمْ هي بدورها بالتعريف عن نفسها كيفما شاءت.


بعد قراءتي لما يقارب الثلاثين صفحة من الرواية تمنيت أن تنتهي هنا. أنانية القارئ دفعتني من الخوف أن يحدث الإنحدار السردي, أو الفكري المعتاد الذي يحدث معي عادةً بأغلب الكتب التي يلتهمُها ذوقي العقلي, ثم راهنتُ نفسي بعد الصفحة السبعين أنه لا بد لهذا الانحدار من الحدوث...لا أتمناه بالطبع لكنني أتوقعه.. وفي الصفحات الأخيرة وجدُتني أخسر الرهان فرحًا رافعًا للروائية القبعة على قدرتها الفذة بأن يتصاعد النفَسُ السردي والفكري لا انحداره, إذ حافظت ما استطاعت على تناغم الجوقة اللغوية مع العلمية تحت قيادة مايسترو المعزوفة الروائية (سعاد) بصفتها البطلة, التي ما أن تستدير في ختامِ المعزوفة حتى يكتشف الجمهورُ المُصفقُ لها, أن المايسترو لم يكن إلا (سعيدًا) في ثياب إنثى... (سعيدًا) بلحيةٍ سوداء, وعمامة رأس, دشداشة بيضاء.


الحديث عن الجنس الثالث شبيهٌ بِعَالمٍ اخترع بدلةً فولاذية لا تنصهر تحت أيِّ درجة حرارة كانت, ثم قرر في لحظةٍ مجنونة الغوصَ في أعماق بركانٍ ثائر ليستكشف الحقيقة.. وما بين متحمس وخائفٍ ومتلهفٍ لهذه الفكرة تراقبُ ملامحَ هذا المغامرِ منتظرًا أن يحدثَك عمَّا لن تسمعه ممن سواه... لا تستطيع تصديقَهُ بالكامل, كما أنك لا تستطيع الاعتراض عليه..تبقى صامتًا مندهشًا تعروك الكآبة الممتعة..فأنت لم تخض المغامرة. يمكنك فقط استحضار الخوف والألم والحيرة والتردد فيما أقدمَ عليه, ناهيك عن محاولتك عبثًا للحد من تطفلك وفضولك كلما ربطت بين شخصية المغامرِ ومغامرتِه... أو لأقل بشكل أوضح: بين شخصية الروائية والرواية .. قد تتساءل: هل الروائية ممرضة؟ أو طبيبة؟ هل هي من الجنس الثالث؟.. تتساءل بخبثٍ سريِّ. .. سؤالك هذا دليل أنها استطاعت إقناعك بأبسط الأشياء قبل عظيمها.


لا أنكر أنني أعشق تاء التأنيث, وياء المتكلم الأنثوية, ونون النسوة في أغلب النصوص التي أكتبها أو أقف عليها عند غيري, سيما حين تمنحك لجامَ ذاك الحصان الفتيّ ممتطيًّا إياه للقفز عن حواجز اللغة بسهولة وبراعة, لكن تاء التأنيث في هذه الرواية تحديدًا أصابتني بالقشعريرة, فهي تاءُ بينَ بين؛ تاءُ اللون الرمادي الذي لا يصيبك بالحيرة بين الأبيض والأسود؛ بل بين الزهري والأسود, أو بين الزهري والأبيض.. تداخلُ الألوان هذا لا يُتعبُ البصرَ كالعادة, بل الروح التي تراقب تمددَ التاء السريع على السطورِ كي تصبح ماردًا أحيانًا, وقزمًا لا يكاد يُرى بعد اختبائه بين منعرجاتِ الأسطر أحيانا أخرى ... تسأل نفسك : أين هربت تلك التاء اللعينة رغم أنها مرت من أمامي قبل قليل؟ .


كرجلٍ يفرقُ بين النهدِ والثدي, والأنثى والمرأة, وكأنهما متضادان في مادةٍ واحدة صُدمتُ من ارتباط الأنثى المباشر بالأمومة كمطلب أساسي لبطلة الرواية, لأجدني متسائلًا: هل هذا المطلب المُلِّح سببهُ تناقضاتها الداخلية ونقصُها أم هو حالةٌ أنوثيةٌ طبيعية خارج عالم الرواية؟ . قد يبدو سؤالًا أحمقًا! سيما أن الطفلة التي ترضِعُ دميتهَا, وتهتم بلباسها ونومها دليلٌ قطعي أن الأمومة تولدُ مع الطفلة وتستمر في مراحل حياتها حتى النفس الأخير, غير أني تساءلت خشيةَ أن الأمرَ اختلفَ في وقتٍ بدأتُ ألتمسُ فيه فطرةً مشوهةً تُفرضُ علينا على شكل حروف وأصواتٍ حداثية...


""الحمل الكاذبُ مؤلم جدًا يشبهُ تلك القطع التي أدسُّها بحمالة الصدر لأبدو للجميع امرأة مكتملة الأنوثة""..

لم تستوقفني هذه الجملة لتشبيهها العميق بل لفلسفةِ الحملِ والوهم من جهة , وفلسفةِ الأنوثةِ الخادعةِ بقشورها والحقيقية المتأصلة من جهةٍ أخرى.. الحقيقية المتأصلة حينما تتعرى الأنثى يومًا لا من ملابسها فقط, بل من ذاتها أمام أحداقٍ أعطيتُ الضوءَ الأخضر لرؤية ما لا يُرى, واستكشاف المجهول دون الحاجةِ لاختراع بدلة فولاذية... هنا لا مساحيق تجميل, لا مساحيق لغوية, لا مساحيق نفسية.. هنا لا بد أن تكون أنتِ أو أنتَ كما لم تكن مُسبقًا, فلا خيار لديكَ سوى أن تكون شجرةً مثمرةً أو قاحلةً حسب حقيقتها.


هنا يتحتم على الطرفين أن يكونا واضحين أكثر من الوضوح ذاته.

هل هي رواية جميلة؟

هل حكمتَ على جمالها منذ البداية, أم المنتصف, أم الخاتمة؟


ليست قصيدة, ولا أنثى, ولا معزوفة, ولا لوحة, ولا مزرعة يحيطها النخيل لأقول أنها في غاية الجمال, أو غير جميلة مطلقًا.. لأقول أنها لم تستهوني أو استهوتني.. إنما روايةٌ أجبرتني على << لكن>> هذه قسرًا لأجدني مجيبًا بعد حواري مع ذوقي الشخصي: هي جميلة حقًا <لكن> ليت أن الروائية فعلت كذا هنا, ولم تفعل هنا كذا...


أنانيتي من لفظت هذه ال <لكن> أحيانًا, وفي أحيان أخرى كانت الروائية من فعلت هذا سيما أمام نقلَتَين نوعيتَين في الخط الدرامي للرواية: مرةً حين تحدثَت عن قتلِ البطلة (سعاد) لإحداهن, وخطف ابنتها لأجدني تهت بين الأحداث وربطي لها بقلقٍ شبيهٍ بقلق التنقل للخلف أو الأمام كي استوعب الحدث المفاجئ بالسرد, ومرة حين بعثت ب (حمزة) من المجهول ودونما مقدمات ليكون خطًا دراميًا مذُهلًا في مسارات الرواية.. قلت في نفسي: كانت بحاجة فقط للتوضيح بعدة جمل هنا, وبحاجة لبعض الجمل القصيرة التعريفية هناك.


هل يحق لي أن أتدخل بين البحر والبحار؟ .. عليَّ أن أعترف أمامكم أنني قد أتدخل بالقارب وشراعهِ أيضًا غيرةً على الدرِّ الذي يسكن أعماق البحر من وجهة نظري الشخصية.


أمَّا الدرُّ فستجده في الصفحةِ الواحدة بطريقةٍ مذهلة, فالروائية ماكرة ومُستفزة فهي تحرمك من أن تتذاكى وتتوقعَ الآتي ففي بداية الصفحة تأتي بشيء عظيم ثم تميته, ثم بآخر وتنسفه, ثم بآخر وتقتلعه من جذوره, وكأنها تقول لك: انتظر يا صديقي فالدررُ ليست هنا, بل في مكان آخر.. وبعد أن تخدعَك وتستلمَ لدفة إبحارها تكتشف أن الدرر كانت على الشاطئ لكنك لم ترها.


لن تسامحني < لكن> لأن لغة الروائية تخلو من البذاءة والفحش, رغم الحديث عن موضوع حساس وشائك. لأن لغة الرواية ليست بالشعرية أو النثرية الموسيقية. لأن لغة الرواية ليست لغة حداثية أو علمية جافة, بل هي لغة أصيلة جزلة وسلسلة ورشيقة بشكلٍّ تشعر فيها أن كل غزلان الكرة الأرضية تركض من أمامك مُقلدةً حروفَها.


لن تسامحني <لكن> إن قلت أن الروائية أعادت وكررت الكثير من الحالات النفسية للبطلة دون داعٍ, فقد أكتفيتُ وفهمت الحالةَ والمضمون جيدًا بعد ثالث تكرار أو رابعه. قد تعترض لأن خيوط الحبكة النفسية بشكل عام مُتنقة ومتراصة ببراعة, وهذا ما قد يستوجب ذاك التكرار.. قد تعترض لأن التكرار فتح لها أبواب الحديث عن قضيتين مهمتين تزامنًا مع حدث الرواية الأهم وهما: قضية فلسطين على لسان (أوليفيا), وقضية حرية الكلمة والموقف على لسان (حمزة).. قد يكون هذا مُبررًا لكنني سأخون نفسي أن قلتُ أنني مقتنع بهذا.


بالتأكيد لن تسامحني حين أعترف أن ربط قضية التحرر من الوطن والرحيل عنه عند (حمزة) , مع قضية التحرر من الأنثى والرحيل عنها عند (سعاد) دون ذكره صراحةً أمرٌ مدهش, فكلاهما رحلَ مُرغمًا ومُكرهًا بعد محاولات مستميتةٍ للبقاء في مكانه.


خَلَت الرواية من الاقتباسات أو النصائح المُستدرَكة في كثير من المواقف على حساب قوة الفكرةِ وطرحِ عدة هموم مجتمعية؛ فبدا ذلك منطقيًا مُستساغًا أحسبه لها لا عليها. هذا وقد تتذوق في بعض الأحيان نصيحةً أو حكمة ذائبة في كوب الفكرة المرحلية للحدث, أو أثناء انتقال الحدث للوصول لآخَرْ كإشارة البطلة (سعاد) مثلاً أن صديقتها (أوليفيا) تستطيع حل جميع المشاكل في هذا العالم مهما كانت, إلا قضية (فلسطين) فهي عاجزةٌ بالكامل أمام أعدل قضية على وجه الأرض.. عاجزة عن الإتيان بشيء ذا قيمة حقيقية لتطرحه على أرض الواقع, لذا تكتفي بدورها بالحديث الحماسي, والصراخ, والانتفاض الجسدي باليدين, والخطابة بحرقةِ الوطنية ومشاعر الهجرة القسرية.


لن أنكر أنني أحب أن أرى وطني (فلسطين)ممدًا على كل شيءٍ مكتوب, وأن تكرار هذا الوجع المقدس أمرُّ أشكر عليه من أهداني إياه عبر أيِّ وسيلة كانت, وجنوح الكاتبة لذكر هذا الوجع لم يكن إلا رسالةً واضحة منها بأننا على امتداد خارطة الوطن الكبير تبقى أهم مشاكلنا على الإطلاق هي "فلسطين" بوجعها ورُسلِها للعالم... حتى وإن لم تكن تقصد ذلك فأنا أشكرها.


قد أنتقد هنا وبشدة لجوء الروائية أثناء الحوار للهجة العُمانية, لا اعتراضًا على أن يكتب الكاتب بلهجةٍ عامية أو لهجةِ موطنه التي قد لا يفهمها البعض, بل لأن القضية المُعالجَة في هذه الرواية هي قضيةُ إنسانية عالمية بحتة, ولأنها كذلك فمن الخطأ برأيي تأطيرها بهذا الشكل سيما أن الحوارات ليست بالكمية الكبيرة في الرواية, فالسرد بشكل عام طغى على الرواية بجماليةٍ كنتُ قد ذكرتها في السطور الأولى مُمتدحًا.


للروائية شخصية قوية لا لأننا تجاذبنا حوارًا حادًا على ( الفيس بوك) يومًا غير آبهةٍ بما قد ينتُج عنه هذا النقاش المضاد طالمَا أنها مقتنعة بما تقول, بل لأنها في الرواية لم تتعاطف مطلقًا مع بطلتها وكأنها تقول لك بملء فمها: هذه هي بطلتي (سعاد) المتناقضة التي تحيا بانفصامها وهشاشتها الداخلية , وثباتها الظاهري, ولك الخيار بالتعاطف معها, أو كراهيتها, أو بهجائها أن كنت شاعرًا. هذه بطلتي وأنا من يحق لي فقط أن أحدثك بما يعتلجُ في صدرها أو بما لا يعتلج ...


( بدرية البدري) وعلى هامش الرواية تحدثت عن الرجل الأب, والأخ, والصديق, والحبيب, والزميل دون مدحٍ أو ذم.. هو الرجل الشرقي الذي له ما له, وعليه ما عليه, وهذا أعتبرهُ نضوجًا فكريًا فليس من المعقول أن تعالجَ مشكلة بخلق مشكلةٍ أخرى؛ أو تخرجَ من صدام المجتمع لصدام الأفضلية المُصَدَّرِ لنا بين الجنسين, ولا من المعقول أن تتعاطف مع الجنس الثالث دون إنصاف الجنس الأول .


أنصحُ بقراءة الرواية معتبرًا أياها رواية جميلة ومميزة وحداثية بشكلٍ كبير, آملًا أن أكونَ قد أنصفتها بما لها وعليها دون مجاملةٍ لا أمتلكُها أوانتقاصها وجمالياتها دون قصدٍ بحديثي هذا عنها .

 15-4-2019.

إرسال تعليق

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

العهدة الثقافية

2016