كتّاب قصيدة النثر يقعون في فخّ الدفاع غير الممنهج وغير المبرر عن أدواتهم، وعنها، وعن أحقيّتها في الحياة، كما أنهم يصنعون عدوّا مفترضاً من خلال هجومهم على النمطين العمودي والتفعيلة، ليصبح لهم كيانا قابلا للحياة، رغم أنّ المسألة لا تعدو كونها تبريرات غير منطقية، فلا يمكن أن نضع الموسيقى الداخلية كشرط أساسي لكتابة قصيدة النثر.
كذلك لا يمكن أن نخضع التكثيف والإيحاء والصورة لشهوة هذا النمط أو ذاك، ليس من شرط بيّن وواضح يمكن أن ننسبه ضمن دائرة الاختصاص لقصيدة النثر، فالقصيدة القديمة من ملامحها وخصائصها البيّنة البحر الشعري، والقصيدة الحديثة بيّنتها وحدة التفعيلة، إضافة إلى ما سبق من خصائص أُلحقت بقصيدة النثر على غير هدى، فما هي بيّنات قصيدة النثر الواضحة التي تؤشر بوضوح على خصوصيتها
التجربة الشعرية هي ضرب في الأعماق، وحفر في مساحات واسعة من اللغة والتشكيل، وخلخلة السكون في ما هو قار، ليس لنسفه، بل للخروج من دائرة التكرار، والإتيان بما يحمله من تقلبات في العملية الشعرية التي لا تقف على حدّ، غير أنّ هذا يقود في كثير من محطاته إلى اغتيال النسق العام الذي يؤشر على ضعف الرؤية، إذا ما اختلط التحوّل بالانفلات، فالأصل في تذويب الحالة الشعرية هي البحث عن منازل التحوّل، إذا ما أراد المبدع أن يخرج خروجاً يستسيغه الآخر، ولكن إذا ما اندفع على غير هدى إلى مكائد النص، فإنه قد يفقد بوصلته، وينأى به إلى حالة من التخبّط العشوائي.
من هنا، وليس قياساً، بل تأشيراً على نزوع الكثير من كتّاب قصيدة النثر، إلى مقاومة النص والانزواء به في حانة التجديد، يرتكب هؤلاء جملة من المحبطات التي قد لا تؤدي بالتالي إلى أحقية النص النثري الشعري بالحياة، لأنّ المنطلق ليس قائماً على بنية التحول المطلوب، الذي ينزع كل مبدع إلى مضارعته، بل يصبح الهدف الأسمى لهؤلاء، الانفلات من دائرة الضوء الشعري انفلاتاً ليس له في الدائرة الذوقية صدى، لهذا سرعان ما تحدث المواجهة غير المبررة بين أن تكتب نصاً تتحول فيه البنى في سياقاتها الجديدة إلى رتبة أخرى للنص الشعري العربي، وبين أن تتحول كمبدع إلى مرآة مهشّمة تشظى فيها الرؤى، مما يعمّق الهوة بين النص ومتلقيه.
النص النثري الشعري إذن في عروجه الأكبر يحتاج إلى المصالحة مع النص الشعري العربي القائم على البحر الخليلي، أو التفعيلة القادمة من أعماق الإيقاع الصحراوي، والمراوغة بينهما، والبحث عن صيغة تبادلية بين ما هو إيقاع خارجي وإيقاع داخلي، بين أن ينصت المبدع إلى هدير الإيقاع الصوتي الخارجي، وبين أن يتلمس مواطن الحواس في إيقاعات الصوت الداخلي، لا أنْ ينحاز انحيازاً كلياً إلى الإيقاع الداخلي بحجّة أنّ التحلل من عقدة الموروث هو البوابة الأولى لإنتاج نص جديد يضاف إلى حركة الشعر العربي.
وإذا كانت قصيدة التفعيلة قد أتت على البحر، وحفظت له كينونته الموسيقية من خلال الاعتماد على تفعيلته دون زيادة أو نقصان أو انقطاع، فإنّ على قصيدة النثر السير في موازاة ذلك برؤية جديدة، عليها أن تنطلق من التفعيلة، وأن تحفظ لها كينونتها الموسيقية، كأنْ، وهذا رأي قابل للتجريب، أنْ تستنبط منها موسيقى خاصة لقصيدة النثر من خلال تشكيل دائرة موسيقية لا تتخطى هذه التفعيلة، لأنّ الشعر لا غنى له عن الموسيقى التي تنظّم مواجيد الكون، بدءا من الصوت الإنساني، مروراً بأصوات الطيور، وليس انتهاء بأصوات العوامل المؤثرة على هذا الكون، من مثل الرياح والرعد وأصوات الأشجار.
إرسال تعليق