هلامية الشكل الأدبي: ضرورة إبداعية أم عجز توصيفي
-أحمد
الخطيب
تكسّر الشكل الأدبي بمختلف
تجلياته من " شعر، قصة، نقد" مما أفقده هوية اللون، فأصبح الجنس الأدبي
وتوصيفه متحجّراً تحت ظلال أمنيات الكاتب، وهو المسيطر على الدلالة، دلالة
التسمية، إذ وقع القارىء والناقد في حيرة من أمرهما إذا ما أرادا أن يرجعا النص
الأدبي إلى أصله ومناط تخلُّقه، مما أوقع الحركة الأدبية في عالمنا العربي في بئر
لا قرار لها، فغدا الجيل الأدبي الجديد منقطعاً عن الجذور، وطارد الجيل القديم
فضاءات وآفاق اللعبة، ليقف كلٌّ منهما على حافة حادة، لا يستقر على
عتبة بيت.
في هذا التحقيق، نحاول أن نعيد الأشياء إلى نصابها، ونبحث عن الأسباب التي تقف وراء هذا الانقلاب الجارف العاصف بهوية اللون والشكل، فما هي الأسباب التي أدّت إلى انحياز الجيل الجديد إلى فكرة التجديد غير المنضبط، وما هي الأسباب التي استفزّت الجيل القديم للنزول إلى ميدان التجديد والتخلّي عن الهوية القارّة في تجربته، وكيف ينظر كل منهما إلى عملية الإبداع، وما هي علاقة مواقع التواصل الاجتماعي بهذا التحوّل الطارئ.
مراشدة: خسارة بعض الفنيات في الجنس الأدبي
يرى
الناقد د. عبد الرحيم مراشدة أن المسألة في كثير من النقد السائد، راح يتحرك في
نقوده دون الاستناد إلى منهج، لا سيما النقود الفضفاضة المنشورة بدون رؤية واضحة
على فضاء التواصل الاجتماعي، وفيما يتعلق بالأجناس الأدبية وتداخلاتها، يحيل
الناقد د. مراشدة القارئين إذا ما أرادوا التعمق حول هذه المسألة إلى بحثه المحكم
في مجلة بونة المغربية العدد 18.
ويضيف بأن تداخل النوع والجنس
ممكن ولكن ضمن أصول ومرجعيات وتبريرات علمية ممكنة، حيث لا يوجد نوع أو جنس أدبي
صاف، بشكل تام، فكل جنس كما يرى يُعرف من مكوناته الأساسية وعناصره الباقية له،
وفي الوقت نفسه إدراك ووعي الأنواع العابرة عليه، مع الأخذ بعين الاعتبار قابلية
كل جنس ومدى قابليته لامتصاص طرائق وأساليب تعبيرية خاصة بغيره.
ويؤكد عميد كلية الآداب والعلوم التربوية في جامعة عجلون الوطنية، بأن الأمر متفاوت، فجنس الرواية باعتباره من النصوص الإبداعية هو الأكثر قابلية لامتصاص واستيعاب عناصر ومكونات وافدة من غيره، وقد اشار فوستر لمثل هذه المسألة في كتابه الموسوم " أركان الرواية"، حيث يرى أن الرواية كما لو مستنقع يرفده روافد عدة، ففيها يمكن أن تجد الحكمة والمثل والشعر والقص، منوهاً أن الشعر وبسبب من سماته التخييلية واستراتيجياته يكون أقل قابلية لعبور الأجناس الأخرى، فالأمر مختلف حسب كل نوع ومدى إمكانية مكوناته للتطويع لمثل هذه المسائل.
ويقول بأن بعض الأجناس يتأثر
بعبور أجناس أخرى عليه ويتحول إلى جنس مسخ وغير مقنع للتلقي، ويكون مشوّهاً، وقد
يتعلل البعض بإشكالية خلق أجناس إبداعية جديدة تحت تبرير التجريب، وهذا يتطلب كما
يرى الوعي بالنص والكون والعالم والتلقي، لهذا لا بدّ من تناول هذه المسألة بوعي
علمي يتناسب وعلمية النقد، ولو تتبعنا تاريخياً هذه المسألة وعملية توارد الأجناس
لوجدنا سنداً مهماً لما ذهبنا إليه من رأي، فالشعر القديم الكلاسيكي احتمل بعض
القص والخبر، والمقامة، مثلاً، احتملت بعض الشعر، ولو تتبعنا تحولات
الجنس الأدبي من أرسطو إلى اليوم لوجدنا وجود أجناس تحيا وتتوالى وتموت.
ويخلص د. مراشدة إلى القول، أنه لا بد من إدراك مسألة في غاية الأهمية عندما يتداخل ويعبر جنس أو نوع لآخر مدى خسارة بعض الفنيات في الجنس الأدبي الذي استجلب واستدخل عليه تلفظات وتعبيرات تكوينية وافدة وطرائق أسلوبية من غيره.
نصير: الوعي بين التطور الطبيعي والانمساخ
يقول
الشاعر مهدي نصير في فوضى العولمة والانتشار الحاد لوسائل التواصل الاجتماعي
الذي ميَّع الحدود بين الكتابة كإبداع والكتابة كتسلية فرضتها ويسَّرتها وفتحت
أبوابها على اتساعها هذه الوسائط التي باتت تتحكم بكلِّ شيء وتسيطر وترسم وتوجِّه
الذوق العام في الفن والموسيقى والفن التشكيلي والسينما والسياسة, في هذه الفوضى
كما يرى تختلط الأوراق ويضيع الإبداع الحقيقي مع زيف النسخ واللصق والتقليد .
ويضيف بأن العولمة التي تحارب
ثقافات الشعوب وتعمل على مسخها ووصمها بالتخلف وعدم مواكبة العصر وتقدِّم للناس
بديلاً جاهزاً لا يمت لثقافتهم بأيِّ صلةٍ ولا يتقاطع معها ولا يحمل هموم أهلها
وخصوصياتهم, تقدِّم هذه السلعة المشوَّهة على أنها هي الحداثة والتقدم والتحضر.
ويرى بأن الأدب والكتابة
الأدبية الإبداعية من شعر ورواية وقصة قصيرة ونقد أدبي وثقافي تأثرت أيضاً بهذا
المناخ المعولم، وباتت هجينةً وتائهةً بين أصالتها وخصوصيتها وبين طوفان الحداثة
الجارف, وهذا ما يتطلَّب الوعي العميق للفارق بين التطور الطبيعي في أشكال التعبير
الأدبي وأدواته وبين الانمساخ والتقليد والموضة العالمية الشائعة .
ويؤكد صاحب ديوان " امرأة
حجريّة"، بأن الكتابة الإبداعية بكلِّ أشكالها ستفقد قيمتها إذا
لم تنبثق من ثقافتنا ومن تحديات حياتنا وتتوالد توالداً طبيعياً داخل لغتنا
وأساليبها وتتطور وتُطوِّر أشكال اتصالها بالثقافات الأخرى وتصهرها في ثقافتها
وأشكال تعبيرها, وعليها حتى تكون أن تنبثق نبتاً أصيلاً طازجاً حيَّاً حاملاً
جيناتنا الثقافية والتاريخية والإنسانية, وحاملاً أيضاً أوجاعنا وأحزاننا وتحديات
حياتنا السياسية والثقافية والمعيشية, وحاملةً أيضاً حلمنا بالتحرر القومي والوطني
والإنساني من كلِّ أشكال العبودية والاستغلال والامتهان والتبعية.
ويخلص الشاعر نصير إلى أن الثقافة غير القادرة على مواجهة هذه العولمة الطاغية والشرسة ستندثر وتضيع وتفقد معنى وجودها وخصوصيته, وستصبح سلعةً في سوق النخاسة الدولي الذي يمتهن الآن نخاسة الشعوب ونخاسة الثقافة عبر تنميطها ومسح جيناتها وهويتها بما يدفع لمسح هويات الشعوب وثقافاتها وإدخالها بيت الطاعة المعولم .
المقداد: ضرورات الكاتب الإبداعية
ويرى
الروائي السوري محمد فتحي المقداد بأن الكاتب كثيراً ما يضطر للاتكاء والتناص في
كتاباته، لتدعيم فكرته أولا، لغاية الوصول إلى مستوى إبداعي يتميز به، مضيفاً بهذا
الصدد، أن الأعمال القصصية الطويلة منها والقصيرة جاءت لتشكل فضاء أدبياً جديداً،
يتسم بالتداخل فيما بين الخاطرة والقصة والشعر والقصة الشعرية، ليكون بالنتيجة
حالة غير منضبطة بجنس أدبي معين، مؤكداً أن ضرورات الكاتب الإبداعية أملتْ عليه
اللجوء للمزج بين أجناس الأدب المختلفة، فأنتج شكلا جديداً يصعب في كثير من
الأحيان تصنيفه، على اعتبار أنه لا حدود للإبداع.
ويضيف بأن النقاد يصفون هذه
الظاهرة بالانفلات الأدبي الذي ابتدع هذه الأشياء التي كثيراً ما توصف بأوصاف لا
تليق بالثقافة والأدب، لكن من الحكمة كما يرى ضرورة معالجة النصوص ذات المستوى
الراقي بمستواه الفني والأدبي، لفتح أبواب جديدة من الممكن أن تتطور إلى ظاهرة
أدبية، تجعل من التعددية فتحاً يحسب لفترة زمنية، وهنا يستلزم تطوير أدوات النقد
كما حدث في الآداب الغربية والعالمية بشكل عام.
ويقول صاحب رواية " الطريق
إلى الزعتري"، في السنوات الأخيرة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة
الكتابة والنشر ظهرت أنواع جديدة مثل " ق.ق.ج"، و " قصة
الومضة"، و " القصة الشعرية"، و " القصيدة النثرية"، و
" القصيدة التعبيرية"، وغير ذلك من الألوان الأدبية التي ما زالت إلى
الآن لم تُقنن وتؤطر ضمن قواعد تُؤمِن شرعنتها الأدبية.
ويخلص المقداد إلى ضرورة الاعتراف بهذه النماذج الإبداعية من قبل النقاد والقراء على سواء، لإثراء الساحة الثقافية، والعمل على تطوير هذه التجارب.
البنا: نصّ هلاميّ الملامح
يؤكد
الشاعر محمود البنا، أننا، أمام النص الأدبي، بعموميته، نقع في إشكالية كبيرة، في
تحديد جنسه، والقاعدة التي اتكأ عليها، ليصبح منها، ويرى بأن الأمر يحتاج إلى
ثقافة واطلاع وممارسة، وهذا، في الحقيقة، ما يجعلنا في مواجهة مباشرة، مع النص، من
جهة، ومع المتلقي، بأشكاله، من جهة أخرى، ويضيف لا ننكر أن هذه الجدلية منوطة
بالخبرة التي تكتنف الطرفين الأساسيّن: المبدع، والمتلقي.
ويشير صاحب كتاب " جدارية
محمود درويش/ دراسة بنيوية"، إلى أننا أمسينا أمام زخم كتابي كبير، لا ينتمي
إلى جنس أدبي صِرف، ويمكن ،م نعزو هذه الضبابية في تحديد جنس الكتابة، لدى الكاتب،
إلى النضوب الثقافي، واقتحام الذات الكاتبة مجالا ليس مجالها، وهذا، بطبيعة الحال،
سيخلق نصاً هلاميّ الملامح، لا يقع فيه القارىء على جنس يحتويه، من جهة أخرى، فإن
القضية المطروحة أعلاه يمكن أن تكون معكوسة، حيث يقع النص الأدبي الأصيل بين يدي
قارئ، أو ناقد، لا يجيد تجنيس النص، ووضعه في دائرته الصحيحة، مما يجعله يطلق
أحكاماً عشوائية، قد تهشّم المكتوب وتهمّشه، لافتا النظر إلى أن عدم المقدرة يعود
كذلك إلى مدى الضحالة المعرفية والثقافية والأسس التي تقوم عليها القراءة الثانية
للنص الأدبي، فيؤدي إلى تراجع ملحوظ، في حال استمراره.
أما عن دور وسائل التواصل
الاجتماعي، فيؤكد الشاعر البنا، أنها عملت على خلق الوهم في الإبداع الكتابي، رغم
أنها خدمته في الوقت نفسه، الوهم الذي يقصده البنا جاء من الجمهور العام الذي أودى
بمن " يصفّون الكلام" دون روح، إلى درك الانحدار، وأدّى إلى ولادة
" نصوص مشوّهة"، وغير واضحة المعالم، أضف إلى ذلك ما تنشره دور النشر
لما يكتبه الجمهور، دون عناية، وبعدم استنادها إلى لجنة مختصة تستطيع بدايةً اختيار
ما يصلح للنشر، وتستطيع، تبعاً، معرفة الجنس الأدبي لما تنشره، كل هذا، وغيره
الكثير من الأسباب، أدّى إلى هذه الجدلية المثارة هنا.
إرسال تعليق