حاوره: أحمد الخطيب
تعددت انشغالات الشاعر والناقد نضال القاسم بين الشعر والنقد والحوارات والتوثيق، ومارس مفرداتها بإيقاعات انفردت معها حدوس البحث عن مشتركات بين الفعل الإبداعي وتنوع جغرافيته، فكان له ذلك، فجمع في كرّاساته القامات الإبداعية العربية إلى جانب الذين تأبطوا الخطى وهم يضعون أوزار أحلامهم على مائدة الميل الأول للتجربة، كل ذلك، ولم يفارقه هاجس الشعر وغواياته، فأصدر عدداً من المجموعات الشعرية، كان آخرها " أحزان الفصول الأربعة"، ولم يخرج عن إطار البحث في سياقات أخرى، فكان أحد مؤسسي " حركة شعراء نيسان"، في هذا الحوار، نحاول أن نقرأ هذه الإيقاعات، وأن نذهب معه إلى ما يتأوّلهُ القارىء في تجربته، مستندين على حدوسه وانشغالاته.
الشاعر نضال القاسم المنفتح على طبيعة حركة الأشياء اليومية في نصوصه، ما هي
المفاتيح التي تعزز صلتك بهذه الحركة؟
الشاعر المنسلخ عن الواقع شاعرٌ بليد الإحساس، لا تؤثر فيه عوامل الحياة، والشاعر الحقيقي هو ابن بيئته، وابن شعبه، وهذا يصدق على تجربتي الشخصية في مجال الشعر، فقد مارست كل ما يشعرني أني أعيش زمني وعصري بعمق بعيداً عن التعصب والانغلاق، في زمن يتشظَّى فيه كل شيء ويتفتت، ولا شك أن هذا التنوع أعطاني غنى داخلياً وفتح إطلالة على التغيرات والتجارب والآراء أكثر، وثمة مفاتيح كثيرة أعثر عليها دائماً في حياتي العامة وفي متابعاتي الفكرية لكل ما يدور حولي، فأنا مكتظٌ دائماً بأشياء كثيرة وأصوات بعيدة مخزونة في الذاكرة، وأعترف أن هذه المعرفة الشمولية والملامسة الهائلة لأسرار الوجود باتت تلعب دورها الأكيد غير المباشر وغير السطحي وباتت تشكل مصدر إغناء هام للإثراء الشعري، وخلفية للذاكرة وللتفجُّر والتدفُّق في لحظة الكتابة، وأنا أعتقد أنه بدون امتلاك لهذه الروح المتأججة فإنني لن أكون قادراً على الإحساس بأنني شاعرٌ محرّض جيدٌ مرهفٌ حسّاس يستطيع الغناء في مواجهة العواصف والهزائم والحروب.
تحاول في نصوصك تفعيل سيناريو
اللقطة، ما الذي يمكن أن يضيفه السيناريو لحركة الأشياء التي ترصدها شعرياً؟
هدفي ورسالتي الوحيدة أن أعبَّر عن نفسي، ولا يؤرقني هذا الشكل أو ذاك النسق، فكل قصيدة تتشكل وفق إيقاعها الخاص بعيداً عن المرجعيات السائدة والقوالب المتحجرة، وإحساسي في لحظة الكتابة هو من يقرر ويختار الطريقة التي أود أن أقول بها ما أريد، ولكن يستهويني على العموم توظيف تقنيات المونتاج الشِّعري في بناء النص، وأسعى دائماً إلى تشخيص الأشياء والحالات كما أراها، وأستشعرها، وفي جميع الأحوال أتجنّب الإبهام أو اللغة المسربلة بغموض شبه متعمد، والجأ في كثير من الأحيان إلى بناء نسق تخييلي يمنح إيماضات أو رؤى مكثفة للقصيدة، وفي قناعتي أن الشاعر الحقيقي يهب قارئه المتعة والفرح.
وانطلاقاً من إيماني بأنَّ اللغة الشِّعرية لغة مشتركة بين الفنون، فإنني أرى أن تداخل الفن الشِّعري مع الفن السيناريوي يستدعي الموازنة بين ماهية النَّص الشِّعري والقصَّة التي ينطوي عليها بتشريحها إلى مشاهد وتقويضها داخل الشريط الشِّعري، وفي هذا المجال، أعتقد أن ديوان(أحزان الفصول الأربعة) يضم العديد من القصائد على مستوى الدلالة السينمائية؛ خصوصاً في قصيدتي (ميدوري) و(أوديسيوس الجديد)، وهي قصائد تتمثل في داخلها المشهدية المتباينة باستغلال تقنية اللقطة وتمثل من وجهة نظري أسلوبية نص السيناريو أو سيناريوية النَّص.
ومن هنا فإنني أرى أن توظيف آليات السينما داخل النسيج الشِّعري ليس أمراً جمالياً فقط بل تحريضي أيضاً، هو تحريض للحواس وللخيال وللحس الجمالي، وهذا التكنيك الشعري يلغي حياد المتلقي ويدخله في اللعبة الشعرية.
القارئ لإصداراتك
الشعرية يلحظ متى انجذاب نصوصها إلى فن البورتريه إذا جاز التعبير، إذ أنها غالباً
ما تبدأ من الرتوش الأولى لتشخيص الفكرة ثم تتمدد لتتشكل، كيف تقرأ ذلك؟
إن وجودي على هذه الأرض ليس وجوداً عابراً، وفي هذا الزمن العربي الذي تحكمه السياسة المباشرة والخطابية والدعائية والإنشائية المبتذلة أحاول أن أكون تهكمياً وساخراً لأنني موجوع وبحاجة لأن أعبر عن هذا الوجع بطريقة كاريكاتيرية، فقصائدي (الدون كيشوتية) ممزوجةٌ بقدرٍ ملحوظ من السخرية والتأمل والإيماضات الخفية والمزاوجة الديكورية، وغير ذلك من المفاهيم، ولكنني في الوقت ذاته أسعى لأن أكون من سلالة الشعراء الكبار الذين يبتعدون عن القصيدة الميكانيكية السهلة وأسعى إلى تشخيص الأشياء والحالات كما أراها وأستشعرها بحالات متعددة من الشعور والبناء الإخراجي، وعلى مستويات مختلفة، وليس المعنى وحده ما يشغلني، بل الكتابة بالمعنى العريض للكلمة، والمزاوجة الديكورية، والبناء الإخراجي، والقدرة الدائمة على النفاذ من طبقة في اللغة إلى أخرى تعكس أحاسيسي ومشاعري ومخزوني الجمالي.
ديوانك الأخير
"أحزان الفصول الأربعة"، يتضمن ثيمتين أساسيتين، إنسانية الالتفات إلى
الضمير الجمعي للعالم ثقافياً، والوقوف على تنميط الأسطورة معاشياً، ما رأيك؟
بمرور الوقت، وتنامي الوعي، تبدّى لي بوضوح أن هنالك خللاً في فهمي للشعر، وفي فهم دوره ووظيفته أيضاً، وأدركت أن إحدى الوظائف الكبرى للشعر هي إعادة ترتيب العالم، ومن هنا فقد أصبحت الهواجس الإنسانية العادية والحميمة للإنسان العادي البسيط والضعيف تلحُّ على قصائدي بشكل قوي، وأدركت أنه لابد لي من تجاوز الصيغة الشعرية التي أكتب بها منذ سنوات وأن أنتقل إلى مرحلةٍ جديدة، وأن أنظر للعالم على نحو أوسع، وأصبحت قصائدي تتحرك في مساحة واسعة من الحريَّة، حريَّة التفكير، وحريَّة الحركة، وحريَّة اختيار الموضوع، وبهذا المعنى فقد أصبحت قصائدي منحازة للجوهر الإنساني والهواجس البشرية، وفي قصائدي تجتمع نداءات الطبيعة مع الرغبة في إعادة تشكيل الحياة بصورة واضحة.
وقد شهدت تجربتي الشعرية انحناءات وتحولات كثيرة: من كتابة القصيدة الغنائية التي تستلهم الذاكرة البصرية والحدث اليومي العابر، إلى القصائد الإنسانية الصاخبة الملتحمة بالواقع الراهن بكل عناصره وألوانه وأصواته ودمه النازف، وصولاً إلى القصيدة الممتزجة بالأسطورة المنبثقة من أرض الحدث.
أما بخصوص تنميط الأسطورة معاشياً ونمذجتها، فقد كنتُ أحاول الوصول إلى أي صيغة تصالحية أستوعب من خلالها فكرة الأسطورة، وهذه في النهاية وسيلتي للإحساس بالأشياء، وقد قرأتُ الكثير من الفلسفة وتاريخ الحضارات والأساطير العربية والإغريقية والصينية والرومانية والشعر العربي والشعر السريالي وكثيراً من الشعر الأثيري ذي النزعة الميتافيزيقية، لكنّي في نهاية المطاف لم أتعامل مع الأساطير في شعري تعاملاً تسجيلياً واهناً وضعيفاً ومقحماً على جسد القصيدة، بل إنني سعيت جاهداً لإنزال الأسطورة إلى الواقع، وتذويبها ضمن النسيج الكياني والإبداعي للقصيدة، فشعري معجونٌ بعناصر الأسطورة، وهي تكوّن العمود الفقري لقصائد ديواني الأخير(أحزان الفصول الأربعة) حيث تلقي بثقلها على خيالي الشعري وصوري وإيقاعاتي ورؤيتي الشعرية للعالم.
ما الذي تسعى حركة
نيسان الشعرية لتوطينه في الذاكرة الشعرية العربية على مستوى الاختلاف والتعاقب،
وانت من مؤسسي هذه الحركة؟
بعيداً عن الصخب التظاهري الإعلامي سريع الزوال فإن حركة نيسان الشعرية لم تقدم أدباً فحسب، وهذا أحد مصادر أهميتها، بل قدّمت أيضاً بياناً شعرياً، ولذلك نجحت في أن تكون تأسيسية وريادية لما بعد الألفية الثالثة مثلما كانت تجارب أخرى تأسيسية وريادية على طريقتها، ونيسان ليست حركة مضادة لنسق الحياة الثقافية الطاغية وإنما هي بالمعنى العريض حركة تصحيحية للحداثة المعطوبة المهيمنة إذا جاز القول، وهي حركة طليعية تؤمن بالمغايرة والتجدد والاختلاف والتعاقب ولذة النص والتجريب والأشكال والتمظهر برؤى متداخلة ومتناظرة ومتغيرة باستمرار، فالتناقض الخلاّق ينتج المغايرة الجمالية التركيبية، وليست نيسان سوى شجرة واحدة باسقة لها أرومة ولكنها تتفرع إلى أغصان وأوراق تعيد ثمارها إنتاج بذور الحياة في سماء الشعر من جديد، لقد جاءت هذه الحركة بمواصفاتها الإبداعية التغييرية لتقدم مقولتها الفنيّة ولغتها الخاصة واقتراحاتها الشعرية والجمالية وتطرح القضايا الكبرى والأفكار المعاصرة وتنقل القصيدة من هامش الحياة إلى متنها أمام جمهرة المتلقين على مسرح الحياة والشعر، ونرجو أن تكون حركة نيسان حافزاً لتفعيل الحياة الثقافية في الأردن وفي الوطن العربي عامة وأن يكون للحركة مع مطلع هذا العام وانطلاقاً منه حضوراً ثقافياً دائماً وراسخاً إلى أبعد الحدود.
كشاعر تعيش تجربة الانفتاح على
المنهج النقدي، هل من عناصر يمكن أن يكشف بها هذا المنهج، أو يفرز الوجه الحقيقي
للنص المبدع دون سواه؟
إن يكن للمبدع في حقول الأدب رسالة واحدة، فإن المشتغل بالنقد له رسالتين: أن يضيء العمل الإبداعي ويرصف طريق الإبداع ذاته، وفي الواقع أنا مصرٌّ أن أكون الاثنين معاً، وهو أمر يثير السرور في نفسي، وأنا بطبيعتي لا أقدّس المنهج، أي أنه صار لدي الشجاعة البديهية لكسر المناهج الجاهزة والتمرُّد عليها، فالعمل الإبداعي هو الذي يعلمُّني بأي منهج أقاربه، وبما تمليه طبيعة النص، وليس بما تمليه طبيعة المنهج. وقد لجأت في مقارباتي النقدية إلى توظيف عدة مناهج كالسياقية والنصية والتأويلية وجميعها تجمع بين الظواهر المضمونية والقضايا الشكلية في إطار رؤية فنيّة خاصة تستمد قوتها وهويتها من الجذور، لكنني في المرحلة الراهنة منحازٌ بالدرجة الأولى إلى حركة العصر المعرفية اللائبة وإلى ثقافتي ومفاهيمي الإنسانية والحضارية، ضمن رؤية مركبة تجمع بين الذاتي والموضوعي والوصفي والمعياري، وسواء كان النقد في أزمة والناقد في معاناة أو العكس، فهناك جهود كبيرة واجتهادات كبرى ومجهودات تحاول أن تبقينا على مسافة قريبة من الفضاءات الإبداعية وأدواتها النقدية، وبالتأكيد أن هذا الأمر يتطلب مني أن أوازن بين أمور عدة مختلفة ومتناثرة، بين مشروعي النقدي وبين شغفي الكتابي.
متابعاتك النقدية
وحواراتك والبحث عن الرموز الإبداعية التي لم يسلط الضوء عليها، تكاد تشكل هويتك
الثقافية لتعدد منازلها، ما الذي أضفته لها، وأضافته لك؟
أنا شاعر "دونكيشوتي" مغامر جريء، وناسك مكرّس للإبداع المتجدد، وواحدٌ من الشعراء التجريبيين الذين لا يركنون إلى منظومات إبداعية جاهزة، ولا يعرفون المهادنة ولا الاستكانة، أما المتابعات النقدية والحوارات والبحث عن الرموز الإبداعية فقد جعلتني أتقمص كل الشخصيات فأنتقل من حوار هذه الشخصية إلى حوار تلك لأنني ببساطة متناهية أبحث عن بقعة ضوء، أنا شخصياً بحاجة لهذه الروح السجالية كي أستمر في الحياة، إيماناً مني بأن الوظيفة الأساسية للكتابة هي تعميق وعي القارىء، وتعميق شحنة حساسيته تجاه جمال العالم. أبحث دائماً عن مثل هذه الشخصيات لأنني أبحث عن أنموذج المتعدد الكثير الكاتب الأديب والمثقف الناقد عميق الجذور والشاسع المنفتح والطليعي في آن معاً.
ما هي اللغة التي تسعى لتفعيلها
وتنقيتها بعد هذا الكم النوعي من الاجتهاد شعرياً ونقدياً؟
ينبغي على الشاعر الحقيقي أن يكون طليعياً وحداثوياً ورؤيوياً ومفجّر لغة، وأن يمتلك رؤيةً متسعة ولغةً متينةً شفافةً ومطواعةً في الوقت نفسه، فاللغة قبل أن تكون هدفاً فنيّاً تصنع منه القطع الأدبية النفيسة من شعر ونثر وسرد، إنها إلى جانب ذلك أهم وسيلة اتصال بين البشر، وهي الرؤية الخاصة للحياة، فنحن لا ننتج المفاهيم بمعزل عن اللغة بل من خلالها، وكثيرون هم الذين كتبوا الشعر، بيد أن قلة منهم من استطاعت أن تحفر خطها ولغتها وعالمها، إن الأمم الحية يا صديقي تتسابق في سبيل خدمة ثقافتها ولغتها، ولا تألوا جهداً في سبيل استثمار كافة الإمكانات المتاحة، لنشر الثقافة واللغة، ولقد سعيت إلى تقديم شعر تجاوزي طليعي مليء بالمفاجآت ومثير للتساؤل والجدل، شعر منحوتٌ في أشد صخور اللغة الشعرية صلابة وقسوة، ويمتاز بانغماسه عميقاً في اللغة باعتبارها كتلة لفظية خُلقت لكي تمزج ما بين الحسي والخيالي بكثافة لا تسقط ضمن الفخ الإنشائي وتجيد تحريك الصور المتحركة بطريقة مبدعة وحاذقة.
ما هو جديدك على المستوى
الشعري والنقدي في ضوء بيان حركة نيسان الشعرية؟
اهتماماتي الثقافية والإبداعية متنوعة واسعة، لكنّني ما زلت أواصل البحث عن جمرة الشعر وأُعطي للإبداع الشعري قيمة أعلى من الإبداعات الأخرى، وقد صدرت مؤخراً مجموعتي الشعرية السادسة "أحزان الفصول الأربعة". وكذلك صدر لي عن دار أمواج للنشر والتوزيع كتاب نقدي بعنوان(مرافئ التأويل/ إبراهيم خليل بين الأدب والنقد)، كما أعمل أيضاً على إكمال ثلاث دراسات ستصدر في كتاب مشترك مخصص لمقاربة متون شعرية أردنية، ويأتي هذا الإصدار كباكورة المشروع النقدي الذي تضطلع به حركة شعراء نيسان إلى جانب مشروعها الشعري.
إرسال تعليق